كأنّ رحى الأيام أدبرت معه حتى أتته السهام من أقرب المقرّبين وبقي وحيداً تليداً بين عتاة السياسة في لبنان.
الآتي إلى السياسة فجأة من خلف نعش أبيه وفي غفلة من الزمن، لم يدر في خلده أنّ الطعنات الأكثر عمقاً وألماً ستأتيه من أهل بيته ومن بيت أبيه.
سعد الحريري الذي لا تسعفه ملامح وجهه على القسوة واليأس ولا تعينه شخصيته المرفهة على الضرب بيد من حديد، خرج الكثيرون من حوله ولم يعودوا أبداً، إلا واحد من بينهم اختلف معه في السياسة، ويصرّ على ألا ينقلب عليه، هو نائب بيروت نهاد المشنوق الذي شكّلت الصور التي جمعتهما سوية على جدران طريق الجديدة رسالة متشعبة بعيدة المدى، تكرّس زعامة الحريري في مواجهة أي طارئ في السياسة.
هي مجموعة صور احتلت جدران منطقة طريق الجديدة شغلت أهل المنطقة وأهل بيروت، وأطلقت العنان للمخيّلات والرغبات والتمنيات والتحليلات، تبشّر باقتراب عودة العلاقة مجدّداً بين رئيس الحكومة السابق سعد الحريري والنائب نهاد المشنوق.
فما إن أصدر النجل الأكبر للرئيس رفيق الحريري بيانه الثاني معلناً دخوله المعترك السياسي اللبناني من بوابة نبيل الحلبي حتّى انتشرت عشرات الصور في منطقة الطريق الجديدة، للرئيس الحريري والنائب المشنوق يقبّل جبينه، دوّن عليها بالأزرق العريض عبارة “الحقيقة الثابتة”.
وترافق انتشار هذه الصور مع تداول مجموعات شبابية من “تيار المستقبل” مقطع فيديو قديم للمشنوق من دار الفتوى خلال الأزمة التي واجهت الحريري في السعودية يقول فيه: “نحنا مش قطيع غنم ولا قطعة أرض بتنتقل ملكيتها من شخص لآخر… بلبنان الأمور بتصير بالانتخابات مش بالمبايعات”.
كأنّ المستقبليين لم يجدوا جملة سياسية واحدة يواجهون بها حركة بهاء الحريري غير تلك الجملة “التاريخية” التي قالها المشنوق من دار الفتوى في أيّار 2018. لعلها صدفة أن يتوافق ذاك التاريخ الأليم في حياة سعد الحريري مع رغبة أخيه بهاء يومها في خوض المعترك السياسي على حسابه، ومن باب إطلاق النار عليه وجمع التواقيع على إعدام سعد سياسياً وتنصيب بهاء بدلاً منه على رأس الطائفة السنية في لبنان.
أيا كان مطلق المشورة على بهاء وناصحه بدخول المعترك السياسي فإنّ خطوته لم تكن موفقة لا من حيث الشكل ولا المضمون، ناهيك عن أنّ أحد أبرز الناطقين بلسانه ومعبدي طريق عودته، المحامي نبيل الحلبي، كان قد أعلن قبل عامين انسحابه من الانتخابات النيابية في 2018، من بيت الوسط بالذات، لمصلحة “المستقبل” منعاً “للشرذمة” وتأييداً “لوحدة الصفّ” مسلّماً بزعامة سعد الحريري للسنّة.
انكفأ الحديث عن عودة بهاء، لكن الصور وما تحاكيه لم يمحَ ذكرها من الذاكرة والتحليلات لا تزال تدور حولها مع سؤال حول هوية من رفع تلك الصور؟ وما كان المقصود منها؟ وهل حملت مؤشّراً الى عودة العلاقة المقطوعة بين الحريري والمشنوق؟
صور أثلجت قلوب الكثيرين من أهل بيروت ممن يرون في المشنوق رقماً صعباً، استطاع رغم حملة الطعنات لإسقاطه في الانتخابات أن يحقّق فوزاً لافتاً. العارفون برأي المشنوق عن قرب يقولون إنّه “حاسم بوقوفه ضد بهاء الحريري من دون أن يغيّر موقفه من سعد الحريري، فالأولويات اليوم اختلفت”.
وهناك من حاول القول إنّه بين بهاء وسعد الحريري سيكون المشنوق بيضة القبّان لأسباب كثيرة، من بينها شبكة علاقات المشنوق البيروتية وشبكة خدماته الكبيرة حين كان وزيراً للداخلية على امتداد خمس سنوات، والأهم أنّ الرجل استطاع أن يخط لنفسه موقعاً سياسياً متميزاً في بيروت.
وفي عملية حسابية انتخابية صغيرة يحلّل هؤلاء كيف أن توزع أبرز المرشّحين على خمس لوائح انتخابية مستقبلاً، من بين بهاء وسعد وفؤاد المخزومي والمشنوق و”حزب الله”، سيكون المشنوق من بينها بيضة القبان حتماً بين سعد وبهاء، وتميل الدفّة حيث يميل.
ومثل هذه المعادلة متداولة في أوساط المستقبليين أيضاً.
هنا كان المشنوق حاسماً أنّه ليس مع موجة بهاء ولا يسير معه. ومن الذاكرة محطتان بارزتان في تاريخ سعد الحريري السياسي، الأولى يوم أقيل وهو في واشنطن وتم تعيين نجيب ميقاتي خلفاً له في السراي الكبير.
يومها كان المشنوق في الصفوف الأمامية للتظاهرة التي تصدت للميقاتي ورفعت الصوت في مواجهته تأييداً للحريري. والثانية خلال أزمته في المملكة العربية السعودية حين كان المشنوق هو السنّي الوحيد الذي قاتل من دار الفتوى مدافعاً عن الحريري ومردّداً جملته الشهيرة ضد “مبايعة” بهاء.
واليوم، مع ظهور بهاء الحريري لمنافسة شقيقه ووراثته سياسياً “على حياة عينه”، يبدو كأن المشنوق، بذاكرة علاقة “عشرة العمر” مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري وسعد، لم يجد “المستقبليون” سواه في ضيقتهم.
يقول العارفون في العلاقة بين المشنوق والحريري إنّ المساعي لم تتوقف يوماً للتقريب بين الرجلين، وهي دائماً تتراوح بين الدعوة إلى التهدئة وبين محاولة المصالحة.
لكن حين يُسأل المشنوق عن خياره بين سعد وبهاء، يضحك ويعتبر أن بهاء “مش وارد أبداً”، لمعرفته بنقص فادح في كفاءته ومشكلة كبيرة في آرائه السياسية.
وفي مجالسه الخاصة يقول المشنوق: “اتركوا الرئيس الشهيد يرتاح في ضريحه… حلّوا عنه”.