تهريب المحروقات سرّع انهيارنا المالي(1): 5 مليار $ طارت من مصرف لبنان

علي برجاوي

15 مايو 2020
تهريب المحروقات سرّع انهيارنا المالي(1): 5 مليار $ طارت من مصرف لبنان

في الأشهر الأولى من العام الماضي، تناقل أهالي المناطق المحاذية للحدود اللبنانيّة السوريّة أخباراً عن توسّع ظاهرة التهريب بين جانبي الحدود، وخصوصاً تهريب المحروقات من الجانب اللبناني إلى الجانب السوري. لأنّ أرقام “الجمارك اللبنانية” حول القمح والطحين في لبنان، مقارنة بالعام الماضي والأعوام السابقة، رجوعاً إلى 2012، تظهر انخفاضاً في الكميات المستوردة، ما يجعل من المستبعد أن يكون هناك تهريب للطحين أو القمح من لبنان إلى سوريا، بحسب مصادر معنية في هذا الملفّ.

في المقابل، ومع تصاعد آثار العقوبات على النظام السوري، ارتفعت أسعار المحروقات في سوريا، وبدأ التقنين في الكميات الموزّعة. وهكذا، سرعان ما التقطت شبكات التهريب العابرة للحدود الفرصة، مستفيدةً من فارق الأسعار بين الدولتين.

في ذلك الوقت، ظهرت أصوات ربطت بين هذه الظاهرة وبين آثار نقديّة شديدة الخطورة عانى منها لبنان، الذي كان قد بدأ بتلمّس ضغوط الأزمة على نظامه المالي، دون أن يصل إلى مرحلة الانهيار الكامل بعد.

لم يلتفت المسؤولون جديّاً، خصوصاً أن الحديث عن ضبط الحدود كان يُربط دائماً بحساسيّات ذات طابع أمني وعسكري تتعلّق بنشاط حزب الله، وبإشكاليّات أخرى تتعلّق بطبيعة العلاقة مع النظام السوري، قبل أن يُربط بالآثار الإقتصاديّة المباشرة.

غابت القضيّة عن متابعة الأعلام المحلّي منذ ذلك الوقت، لكنّ جمرها لم يتوقّف عن نهش بنية النظام المالي اللبناني، لا بل تكشف الأرقام اليوم أنّ حجم هذه الظاهرة الضخم ساهم طوال الأشهر الـ18 الماضية في تسريع الانهيار المالي الذي وصلنا إليه اليوم. فبحسب أرقام الجمارك اللبنانيّة، إرتفع حجم واردات لبنان من المحروقات بعد تفشّي هذه الظاهرة إلى حدود 6 مليون طن في الأشهر الستة الأولى من عام 2019، مقارنة ب 2.71 مليون طن فقط في الأشهر الستة الأولى من عام 2018. بمعنى آخر، إرتفع حجم الواردات هذه بأكثر من 2.21 مرّة، بين الفترتين، بسبب توسّع عمليّات التهريب، بحسب الأرقام التي تنشرها إدارة “الجمارك”.

هذا الإرتفاع في حجم الواردات لتغذية عمليّات التهريب، ترافق بين الفترتين بارتفاع موازي في كلفة الإستيراد، التي قفزت من حدود 1.6 مليار دولار في أوّل ستّة أشهر من عام 2018، إلى حدود 3.33 مليار دولار في أوّل ستة أشهر من عام 2019. وبذلك، تكون فاتورة إستيراد المحروقات قد ارتفعت بحوالي 1.73 مليار دولار خلال الأشهر الستة الأولى فقط من العام الماضي، وهو ارتفاع يعود بشكل أساسي إلى إرتفاع كمية المحروقات المستوردة نتيجة توسّع أعمال التهريب منذ بداية عام 2019.

بالتأكيد، لا يشمل هذا الاستنزاف الإضافي الضخم، أي مبلغ 1.73 مليار دولار، سوى النصف الأول من العام الماضي، مع العلم أنّ عمليات التهريب استمرّت بالتوسّع في النصف الثاني من العام نفسه، وتفشّى حجمها تدريجيّاً في الأشهر الأربعة الأولى من هذا العام بالتوازي مع إرتفاع الفارق بين سعر الصرف المدعوم للمحروقات وسعر الصرف الفعلي.


حين نتحدّث عن استنزاف يطال النظام المالي اللبناني، فنحن نتحدّث عن مستويات الاحتياطي المتوفّر من العملات الصعبة لدى مصرف لبنان


وإذا كانت الأشهر الستّة الأولى من العام الماضي قد إستنزفت 1.73 مليار إضافيّة من السيولة المتوفّرة لدى مصرف لبنان، يمكن الإستنتاج سريعاً أنّ هذا المعدّل من الإستنزاف يوازي 3.46 مليار دولار على أساس سنوي، وما يقارب 4.76 مليار دولار بالنسبة للفترة الممتدة من أوّل السنة الماضية ولغاية الآن. مع العلم أن هذه التقديرات تفترض استمرار عمليّات التهريب بالوتيرة نفسها، فيما عمليّات التهريب كانت قد شهدت توسّعاً كبيراً في النصف الثاني من العام 2019، وتفشّياً استثنائياً خلال الأشهر القليلة الماضية، ما يعني أنّ المبلغ سيكون قد تجاوز 5 مليارات دولار حتى لحظة كتابة هذه السطور.

فمصرف لبنان مستمر حتّى اللحظة في دعم استيراد المحروقات والقمح والدواء من خلال توفير الدولارات بسعر الصرف الرسمي، وهو يقارب 1518 ليرة مقابل الدولار لدى شراء الدولار من المصارف للاستيراد. وعمليّاً، ومع اتّساع الفارق بين سعر الصرف المدعوم وسعر الصرف الفعلي، بات بإمكان المهرّبين تحقيق أرباح خياليّة عبر شراء المحروقات  بسعر الصرف المدعوم في لبنان، وبيع هذه البضائع بالدولار النقدي في سوريا، مع العلم أنّ سعر صرف الدولار الفعلي في السوق بات يتجاوز 4300 ليرة مقابل الدولار، في معظم الأحيان.

بسبب هذا العامل المستجدّ بالتحديد، يمكن فهم تفشّي ظاهرة التهريب على أوسع نطاق خلال الأشهر القليلة الماضية، وصولاً إلى درجة إرسال قوافل ضخمة ومنظّمة من البضائع المهرّبة بإتجاه الأراضي السوريّة. ولذلك، أعادت هذه التطوّرات تسليط الضوء على مسألة التهريب في وسائل الأعلام، رغم أنّ عمليّات التهريب لم تتوقّف منذ بداية عام 2019، كما لم يتوقّف الاستنزاف الذي تسبّبه للنظام المالي اللبناني.

وكان مجلس الوزراء قد قرر في جلسته أمس مصادرة الشاحنات والصهاريج التي تهرب المواد إلى سوريا مع حمولتها. على أن يصدر القرار بموجب مرسوم من دون حاجة إلى تعديل قانون. لكنّ مراقبين اعتبروا القرار إعلامياً دونه السياسة والأمن وقوى الأمر الواقع.

وحين نتحدّث عن استنزاف يطال النظام المالي اللبناني، فنحن نتحدّث عن مستويات الاحتياطي المتوفّر من العملات الصعبة لدى مصرف لبنان. فسعر الصرف المدعوم يؤمّنه مصرف لبنان عمليّاً من خلال بيع المستوردين الدولارات المطلوبة من احتياطي العملات الصعبة المتوفّر لديه، وبالتالي فمليارات الدولارات التي جرى استنزافها منذ بداية 2019 في عمليّات التهريب هي عمليّاً خسائر أصابت الإحتياطات المتوفّرة لدى مصرف لبنان من العملات الأجنبيّة. مع العلم أنّ مستوى هذه الإحتياطات السائلة والقابلة للإستخدام اليوم بالكاد يتجاوز 20 مليار دولار أميركي، 3 منها فقط قابلة للاستخدام، و17 احتياطي المصارف. ما يعني أنّ استنزاف 5 مليارات دولارات في تهريب المازوت وغيره من المحروقات يزيد عن 150 % من احتياطي مصرف لبنان القابل للاستخدام من الدولار الأميركي.

لقراءة الدراسة التي استندت إلى أرقام الجمارك اللبنانية إضغط