يعود لبنان إلى خطّ بياني استراتيجي. محاولات التعمية الداخلية في الصراعات التفصيلية، لم تحجب غبار المعارك الدائرة في المحيط، وعلى رأسها سوريا، التي ستشهد مخاضاً طويلاً من الآن حتى السنة المقبلة، بما ستحمله من تطورات وتحولات.
الكوريدور الإيراني
الخطّ البياني المتجدد هو المعبر الاستراتيجي من طهران إلى بيروت مروراً ببغداد ودمشق. قبل أيام، سرّب كلام إسرائيلي أميركي، حول الاستعداد للعمل على إقفال هذا الخطّ، ومنع إيران من استمرارها في استثمار “كوريدورها” الاستراتيجي والحيوي، والذي يسمح لها بالاحتفاظ بنفوذ واسع في كل من العراق وسوريا ولبنان، وتبقى على تماس دائم مع إسرائيل للضغط عليها، أو على المجتمع الدولي من خلالها.
جاء الرد سريعاً على لسان أمين عام حزب الله، السيد حسن نصر الله، بأن هذا الطريق ممنوع من الإقفال وسيستمر. دعم نصر الله موقفه، بدعوة الحكومة اللبنانية إلى الانفتاح على سوريا، وتعزيز العلاقة معها بعد تطبيعها، لأنها بنظره الفرصة الوحيدة لإنقاذ لبنان من واقعه الاقتصادي المنهار، من خلال التجارة والزراعة. والأهم، في “التنسيق مع الجيش السوري” لمكافحة التهريب عبر المعابر غير الشرعية وضبطها.
معابر التهريب و”السوق المشرقية”
تحدث نصر الله بكل أريحية سياسية في هذا الموضوع. وذلك للاستثمار السياسي لصالح المحور الاستراتيجي الذي ينتمي إليه. والأهم أنه تناول الموضوع، متناسياً أن حزبه خاض غمار معارك الجرود والحدود ضد الإرهاب. ومقاتلوه يعرفون كل شبر في هذه الأراضي منذ أيام المعارك إلى أيام التمركز فيها. وبالتالي، كل المعطيات حول معابر التهريب يفترض أن تكون بحوزته. ولا داعي للجوء إلى سوريا، لو كانت هناك إرادة مجردة عن أي حسابات سياسية.
موقف نصر الله بطلب انفتاح الدولة اللبنانية على سوريا والعودة إلى معادلة الشرق (نحو إيران والصين)، تتجدد وتتعمم على كل المنضوين تحت جناح هذا التحالف أو هذا المحور، للتأكيد مجدداً أن لبنان عضو في المحور الممانع. وكل حلفاء الحزب بدأوا بالتسويق إلى هذه المعادلة، باختيار عنوان “اللجوء إلى السوق المشرقية” في المرحلة المقبلة. يأتي ذلك بالتزامن مع بدء لبنان مفاوضاته الرسمية مع صندوق النقد الدولي، للخروج من أزمته المالية.
وهنا، ثمة تناقض لا يمكن أن يكون مفهوماً إلا في سياق تعزيز الشروط السياسية، وللوصول إلى القول إن البديل عن ضغوط صندوق النقد وشروطه سيكون باللجوء إلى سوريا والعراق وإيران. بينما أضاف جبران باسيل دولاً جديداً إلى “هذا العمق الحيوي المشرقي للبنان”، بإضافة الأردن وفلسطين ومصر.
ما يتخيله باسيل
طبعاً، لم يأت باسيل على ذكر دول الخليج. وهي التي تمثّل السوق الأكبر القادر على إراحة لبنان. إنما كان خياره باللجوء إلى دول ذات اقتصادات متعثرة وغير متعافية، لأن ذلك ينضوي تحت أهداف وخلفيات سياسية، وربما صلة الوصل بينها كلها هو فلسطين المحتلة، إن لم يكن الكيان الإسرائيلي، والصراع المفتوح على النفوذ.
اختيار هذه الدول ليس تفصيلاً أو أمراً بسيطاً، إنما يفصّل العناوين الحقيقية للصراع، وهو أنه موجه ضد دول الخليج. وبما أن لبنان ينضوي تحت جناح المحور الإيراني، فلا يمكن له اللجوء إلى السوق الخليجية، ويقف عند حدود الأردن ومصر. ولهاتين الدولتين حدود مع الكيان الإسرائيلي، كما هو الحال بالنسبة إلى لبنان وسوريا، وما يرتبط بين البلدين من ملفات تتعلق بترسيم الحدود، والتنقيب عن النفط والغاز. ومصر والأردن شركاء في خط الغاز الإسرائيلي إلى جانب قبرص واليونان. فهل هذا يعني أن لبنان سيذهب في هذا الاتجاه بشكل أو بآخر، طالما أن المعركة توجه ضد دول الخليج؟
لا بد للأيام من أن تتكفل بالإجابة. ولكن ما بين السوق المشرقية والتحالف المشرقي الذي لطالما سوق له باسيل – وهو يعني بشكل أوضح ومن دون مواربة تحالف الأقليات – يدخل لبنان حالياً مرحلة سياسية جديدة، أيضاً يصفها باسيل باللامركزية المالية والإدارية الموسعة، والتي هي بمعنى أوضح “الفيدرالية”. من هنا ربما احتاج باسيل إلى استذكار اتفاق 17 أيار، والذي ترك المعادلة حوله مشكولة حالياً، ولن تكون منفصلة عن الاتجاهات السابقة.