هذه الفوضى دفعت بالمشهد الاميركي الى طرح كثير من الافكار غير المسبوقة حيال الانتخابات الرئاسية. إحدى هذه الافكار طرحها قريبون من الحزب الديموقراطي وتقضي بالاقتراع الالكتروني كتدبير حماية من كورونا للطوابير التي تقف أمام مراكز الاقتراع. لكنّ فريق ترامب يرفض الفكرة من اساسها بذريعة الخرق الروسي. إلّا انّ الخلفية الحقيقية هي أنّ التصويت الالكتروني يرفع نسبة اقتراع معارضي ترامب الموجودين في المدن الكبرى وهم من اصحاب المهن ورجال الاعمال والذين لا يتحمّسون كثيراً في العادة للمشاركة في العملية الانتخابية. ويطرح “الجمهوريون” فكرة مضادة تقضي بتأجيل الانتخابات الى حين تجاوز موجة كورونا. والهدف الفعلي من وراء ذلك إيجاد متّسع من الوقت لاستعادة القدرة الاقتصادية ومعها اعادة إمساك ترامب بالورقة الاقتصادية.
ووسط هذه الفوضى أنجز مجلس الامن القومي الاميركي صياغة النظرة الاستراتيجية الاميركية العالمية الجديدة، والتي ارتكزت على مواجهة الصمود الصيني على المسرح العالمي وسبل مواجهة هذا التمدّد.
ووفق الرؤيا الجديدة فإنّ روسيا ليست قوة عظمى في أيّ مقياس معاصر. فلموسكو موارد متواضعة نسبياً لا تسمح لها باستعادة دور الند لواشنطن. ولذلك يمكن التفاهم مع روسيا في مناطق مثل سوريا، والتصارع معها في مناطق اخرى مثل أوكرانيا. امّا الصين فشأن آخر، ولذلك على واشنطن تأمين مصالحها على المَديين القصير والطويل الامد، وليس التفاعل مع الاحداث على قاعدة ردات الفعل.
في المقابل تستعد الصين بدورها لحقبة حرب باردة جديدة قوامها الاقتصاد والنفوذ وربما الحروب بالواسطة. وعلى سبيل المثال، فرضت بكين قانوناً يسمح بقمع أكثر قساوة لاحتجاجات جديدة قد تظهر في هونغ كونغ. لكنّ ساحة الاهتمام التي تستوجب ترتيباً سريعاً هي ساحة الشرق الاوسط التي أطلّت الصين برأسها من عدة زوايا منها (اسرائيل كانت إحداها)، وهو ما يجعل واشنطن تتجه الى ترتيب الشرق الاوسط وإقفاله امام الصين، ما سيصعّب على بكين تمددها في افريقيا واوروبا.
لذلك كان وزير الخارجية الاميركية مايك بومبيو حازماً امام المسؤولين الاسرائيليين الكبار خلال زيارته الاخيرة حيال ضرورة وقف كل أشكال التعاون الاقتصادي مع الصين.
وفي المقابل، بَدا انّ القنوات الخلفية بين واشنطن وطهران شهدت حركة صامتة. ولا شك في انّ قناة سلطنة عمان مشهود لها بالتزامها الحفاظ على السرية المطلوبة. ذلك أنّ ثمة مؤشرات مهمة حصلت، وهي ما كانت لتتحقق لولا وجود موافقة، ولو غير معلنة، من واشنطن وطهران على حد سواء.
وإحدى أبرز هذه المؤشرات التفاهم على مصطفى الكاظمي رئيساً للحكومة العراقية رغم المعارضة التي أبدتها فصائل شيعية ليست محسوبة على ايران. أضف الى ذلك ورود اسمَي وزيري الداخلية والدفاع.
كذلك عدم اعتراض واشنطن على سماح دول اوروبية بالافراج عن اصول ايرانية من دون مواجهة اجراءات عقابية اميركية، وبذريعة مساعدة ايران على مواجهة تبعات كورونا. كما جاء سحب واشنطن لـ4 قواعد صواريخ باتريوت من السعودية بعد اشهر معدودة على وصولها وخفض مستوى التوتر العسكري في الخليج، كمؤشّر له دلالاته الواضحة. مع الاشارة الى انّ بومبيو كان قد أعلن عن حوار استراتيجي متوقّع مع الحكومة العراقية من المقرر حصوله في حزيران المقبل. ويبدو انه سينتج عن هذا الحوار الاعلان عن قرار تمّ التفاهم عليه مسبقاً، ويقضي بانسحاب الجيش الاميركي من العراق خلال الفترة الفاصلة ما بين الانتخابات الرئاسية الاميركية ونهاية السنة الجارية. وقد يُستتبع ذلك بانسحاب عسكري أميركي آخر من سوريا، بعدما تم التفاهم مع روسيا حول منحها الدور المطلوب. على ان يسبق ذلك ضبط الحدود السورية ـ اللبنانية والسورية ـ العراقية.
ومن المؤشرات المعبّرة ايضاً إرسال ايران 5 ناقلات نفط الى فنزويلا، وهو ما لم يحصل ابداً منذ اندلاع الازمة الفنزويلية. واللافت هنا انّ ناقلات النفط الايرانية اجتازت قناة السويس ومضيق جبل طارق اللذين تتحكّم بقرارهما واشنطن، رغم التهديدات التي كانت تتصدر وسائل الاعلام. وتكفي الاشارة الى احتجاز ناقلة نفط ايرانية في آب الماضي عند مضيق جبل طارق لفترة 6 اسابيع عندما قيل انها كانت متّجهة الى سوريا. اليوم لم يحصل ذلك، وبقي التهديد في الاطار الاعلامي.
وفي سوريا، تقوم روسيا بترتيب وضع الساحة حيث أشرفت على اتفاق سمح بفتح طريق M4 الحيوي الذي يربط بين شمال شرق سوريا والمناطق الداخلية.
كل هذه المؤشرات المهمة تعطي الانطباع عن وجود قناة خلفية تقوم بتأمين الاخراج والترتيب المطلوبين. ولا حاجة للاشارة الى انّ الانسحاب العسكري الاميركي من العراق وسوريا مسألة لا تحصل ببساطة، ولكن هذا لا يعني انّ الامور انتهت. فالفترة الزمنية الفاصلة عن الانتخابات الاميركية ما تزال طويلة والامور بخواتيمها. أضف الى ذلك وجود مخاطر لا بد من التحَسّب لها، لأنّ هناك متضررين يعملون على الخريطة وفي طليعة هؤلاء اسرائيل.
ففي واشنطن تحسّب للحكومة الائتلافية في اسرائيل، فالتاريخ يلحظ أن هذا النوع من الحكومات يؤدي الى جنوح اسرائيلي في اتجاه اعمال كبيرة ومجنونة. والأهم انّ احدى أبرز نقاط التفاهم بين بنيامين نتنياهو وبيني غانتس هي تلك المتعلقة بضَمّ أجزاء من الضفة الغربية في تموز المقبل. وهو ما يعني انفجاراً مع الفلسطينيين، وقطع الاردن لقنوات التنسيق مع اسرائيل بسبب خشيتها من ان يؤدي الضَم والعنف الى دفع الفلسطينيين في اتجاه الاردن والذهاب لاحقاً الى تقسيم الاردن الى دولتين، وهو الحلم الاسرائيلي المُزمن.
وخلال زيارته الاخيرة لإسرائيل نصح بومبيو نتنياهو وغانتس بعدم الذهاب الى خطوة الضَم في تموز المقبل، واستعمالها عوضاً عن ذلك ورقة ضغط على الفلسطينيين لإلزامهم بالذهاب الى مفاوضات مع الحكومة الاسرائيلية بهدف تطبيق خطة “صفقة القرن”.
من جهته، صرّح نتنياهو أنه لن يهدر الفرصة التاريخية بفرض السيادة الاسرائيلية على مناطق في الضفة الغربية. وعَلّل لبومبيو موقفه بالقول إنه يخشى خسارة ترامب للانتخابات ووصول الديموقراطيين الذين سيرفضون الضَم من أساسه. في الواقع إنّ إدارة ترامب تدرك جيداً انّ “حكومة الوحش” الاسرائيلية تريد فعلياً دفع الاوضاع الى السخونة لعرقلة أي تفاهمات قد تحصل سراً بين واشنطن وطهران.
وسبقَ لإسرائيل ان قامت بعمليات لأهداف مشابهة، فهي اغتالت القيادي الفلسطيني ابو حسن سلامة عام 1979 في بيروت بعدما اكتشفت انه يشكّل حلقة التواصل بين منظمة التحرير الفلسطينية وواشنطن. في الظاهر كانت العملية موجّهة لأحد مخطّطي عملية ميونيخ، لكن في العمق كانت واشنطن تدرك انّ العملية موجهة ضدها. كذلك قصفت الطائرات الحربية الاسرائيلية سفينة التجسّس الاميركية «ليبرتي» عام 1967، والتي كانت موجودة لمنع الجيش الاسرائيلي من احتلال الضفة الغربية. وتذرّعت اسرائيل بأنها أخطأت في هوية السفينة. وإنّ ضَمّ أجزاء من الضفة او حتى القيام بعمليات قصف جوي لمواقع محسوبة على ايران و”حزب الله” في الجولان سيكون هدفه الفعلي توتير الوضع في المنطقة لمنع حصول تفاهمات اميركية ـ ايرانية. ففي الاعلام الاسرائيلي تركيز على حضور “حزب الله” الكبير جنوب دمشق، مرفقاً برهان إسرائيلي على أنّ “حزب الله” سيتجنّب توسيع دائرة المواجهة في اتجاه لبنان، لأنه أصبح جزءاً اساسياً من الدولة اللبنانية، وانه سيتجنّب خسارة ما أصبح يمتلكه. وبغضّ النظر عن صحة الرهان الاسرائيلي من عدمه، الّا أنّ أشهر الصيف تبدو خطرة”.