إيلي الفرزلي ينشر مذكراته. يكفي هذا العنوان المقتضب كتوطئة صاروخية للعاصفة.
وصفه الزميل سامي كليب بـ”كتاب العصر اللبناني”، ولا شك أنّه كذلك.
هو قطعًا يتجاوز السيرة الذاتية وكتابة المذكّرات بقماشتها التقليدية، وهو حتمًا وثيقة بالغة الأهمية سترقد طويلاً في ذمة التاريخ، وستصير مرجعًا يُعتدّ به لسنوات وعقود مقبلة.
والأكيد أنّه سيفتح نقاشًا مستفيضًا حول مراحل دقيقة جدًا من تاريخنا الوطني، وحول كواليس ظلّت مبهمة ومستترة في خضمّ لعبة سياسية بالغة الحساسية والتعقيد، على هامش بلد متورّم ومتشعّب المشارب ومكثّف التصادمات والتقاطعات.
هذه حلقة أولى من حلقات كثيرة سأعمد إلى نشرها تباعًا، لكنّني أردت أن أستهلّها من رواية مثيرة جدًا عن جبران باسيل، ذاك الرجل الذي طالما صدّع رؤوسنا بنظريات مُسهبة عن الاستقلالية والتجرّد والعفاف، وعن دوره البطولي في استعادة الحقوق المسلوبة، وفي رسم مقوّمات الأقوياء في بيئاتهم وضمن مجتمعاتهم.
يسرد إيلي الفرزلي في الصفحتين 656 و657 من كتابه «أجمل التاريخ كان غدًا» تفاصيل مرحلة تشكيل الحكومة التي أعقبت انتخابات العام 2009، وكيف ساهم بحلّ عقدة توزير جبران باسيل وتسليمه حقيبة الطاقة بعد الفيتو الذي وضعه سعد الحريري على توزير “الراسبين” في الانتخابات، فقابله ميشال عون بالإصرار يومذاك على تسليم الوزارة لصهره، قبل أن يهدّد علنًا بمنع التشكيل “كرمى عيونه”.
لمس إيلي الفرزلي خلال هذه الفترة توترًا متبادلاً بين ميشال عون وبين سليمان فرنجية، وبين الأخير وبين جبران باسيل، فسارع إلى سوريا للمساعدة في تبديد أجواء التوتر بين الحليفين المارونيين في البيت الواحد، وفي إزالة المناخات السلبية، لا سيما عدم الاستجابة لمطالب ميشال عون الحكومية، وعلى رأسها توزير جبران باسيل. يقول: «شققت طريقي إلى دمشق. اجتمعت باللواء محمد ناصيف، وشرحت له الواقع الناشئ في بيروت، فاستدعى مدير مكتبه سمير جمعة وطلب منه تدوين ملاحظاتي، وإعداد مذكرة بها إلى الرئيس بشار الأسد».
قبل مغادرتي الأراضي السورية، يُضيف الفرزلي: «تلقيت مكالمة هاتفية من رستم غزالي وطلب مني ملاقاته في مكتبه، ثم أخبرني أنّ الرئيس بشار الأسد مصرّ على استعجال تشكيل الحكومة، سألته مستفسرًا: ماذا عساي أفعل؟ فدخل رستم غزالي إلى غرفة مجاورة لدقائق معدودة، ثم عاد ليقول لي: سيادة الرئيس على الهاتف ويريد التحدّث إليك».
يتابع إيلي الفرزلي: «استمرّت مكالمتي مع بشار الأسد قرابة نصف ساعة. شدّد فيها على تشكيل الحكومة، وكشف لي أنّه اتصل بالعاهل السعودي عبد الله بن عبد العزيز، وقال له بالحرف: ليس لميشال عون ولد صبي. جبران باسيل صهره كابنه. يريده وزيرًا للطاقة والمياه، فهل يجوز أن يبقى ذلك عقبة في طريق تأليف الحكومة؟ لم يتردّد الملك فوافقني الرأي»، والكلام هنا لبشار الأسد.
يضيف الأسد متوجّهًا إلى الفرزلي: «أريد حلًّا نهائياً لهذه المشكلة اليوم»، فيجيب الفرزلي: «انتظر مني مكالمة هاتفية ليلاً». لكن الأسد عاد وكرّر كلامه: «أريد الانتهاء من الحكومة اليوم».
أُعطي الضوء الأخضر في الاتجاهين المتنافرين، لسعد الحريري، وكانت مساعي استعادة علاقته بدمشق قد تقدمت سريعًا، وميشال عون كي تبصر مراسيم الحكومة الجديدة النور
غادر إيلي الفرزلي مكتب رستم غزالي عائدًا إلى بيروت قرابة العاشرة ليلاً، وقد اتصل فورًا بميشال عون وطلب منه أن يلتقيه على نحوٍ عاجل.
قبل منتصف الليل بربع ساعة وصلتُ إلى الرابية، يقول الفرزلي. «كان الجنرال ينتظرني مرتديًا الروب وإلى جانبه جبران باسيل. شرحت لهما ما دار بيني وبين الرئيس السوري. أطرق الجنرال يفكر قليلاً، ثم قال: فليكن».
أخبرهم الفرزلي أنّ الأسد ينتظر منه مكالمة هاتفية وجوابًا على مطلبه، ثم اتصل برستم غزالي مستمزجًا إمكانية التوجه في الليلة نفسها إلى دمشق، وكان الوقت قد تجاوز حينها منتصف الليل، فاستمهله غزالي بالردّ، ليعود ويتصل بعد دقائق مفضّلاً عدم اجتيازهم الحدود في الطقس الماطر والعاصف، واتفقا على الاجتماع بعد يومين.
يختم إيلي الفرزلي روايته بالآتي: «أُعطي الضوء الأخضر في الاتجاهين المتنافرين، لسعد الحريري، وكانت مساعي استعادة علاقته بدمشق قد تقدمت سريعًا، وميشال عون كي تبصر مراسيم الحكومة الجديدة النور».
ننقل بأمانة مطلقة ما ورد في كتاب الفرزلي، ونترك للبنانيين جميعًا، وللمسيحيين وحزب الله على وجه الخصوص، أن يتمعّنوا جيدًا بهذه التفاصيل، وأن يدركوا تمام الإدراك أنّ الرجل الذي ارتضى بوساطة بشار الأسد مع الملك السعودي ليصير وزيرًا في الحكومة وهو راسب بالانتخابات، مستعدٌ أن يفعل وأن يقبل بأيّ شيء ليصير رئيسًا للجمهورية.