هناك من يعلّق أهمية مفصلية على انطلاق “الانتفاضة 2″، بزخم يُراد له أن يكون قوياً وفاعلاً، مع رغبةٍ في تجاوز الثغرات البنيوية التي قلَّصت مفاعيل الانتفاضة الأولى، ولو أنّها حقَّقت إنجازات هائلة في غضون أسابيع قليلة.
فصحيح أنّ انتفاضة 17 تشرين الأول أسقطت تركيبة 2016 ودقَّت مسامير في نعش الفساد اللبناني العتيق. لكن الصحيح أيضاً أنّ أركان التركيبة يحاولون إنعاشها كل يوم، على رغم مظاهر الصراع بينهم. كما أنّ الحكومة الحالية ليست سوى تجسيد للقوى النافذة، تحت هيئة “تكنوقراط” للمخادعة.
بهذا المعنى، حكومة حسّان دياب ليست أفضل من حكومة سعد الحريري. فالفارق هو أنّ الأولى مكشوفة، وأما الثانية فتحاول أن تكون مموَّهة. وكلتاهما تُعبِّران عن رغبة القوى السياسية في حماية رأسها وضمان مكتسباتها. ويحرص دياب على “دَوْزَنة” خطواته ليداري “حزب الله” وعون والقوى الدولية والإقليمية كلها في آن معاً، فيحافظ على وجوده، تماماً كما فعل الحريري عندما كان في السرايا.
ولكن أيضاً، واستناداً إلى المعادلة إيّاها، ليس مستبعداً أن يصل دياب إلى الطلاق مع القوى الداعمة لحكومته، تماماً كما وصل الحريري. وصحيح أنّ تموضع الحريري السياسي كان يشجعه على مناكفة الشركاء في حكومته، لكن الصحيح أيضاً هو أنّ دياب نفسه، الحامل صبغة الأكاديمي، ليس منتمياً إلى خط شركائه السياسي، أو على الأقل هو ليس مقاتلاً في معسكرهم.
العالمون يقولون: الانتفاضة الأولى دفعت الحريري إلى الاستقالة بعد أسبوعين من انطلاقها، تحت وطأة الاحتقان الاقتصادي والمالي والنقدي. لكن ما لا يجوز إنكاره هو أنّ الضغط الأساسي جاء من القوى الدولية والعربية، وفي مقدّمها واشنطن، حيث جرى تشجيعه على الاستجابة لمطالب الإصلاح التي يهتف بها المنتفضون في الشارع.
واليوم، الانتفاضة الثانية تضغط على دياب، إما لتشجيعه على الاستجابة أيضاً للإصلاح، وإما لدفعه إلى الاستقالة بعد انتهاء مهلة المئة يوم وتسارع وتيرة الانهيار، فيما بلغ الضغط الأميركي مداه الأوسع. وهنا بيت القصيد: سيجد دياب نفسه مضطراً إلى الاستجابة إجبارياً لشروط صندوق النقد الدولي في “الإصلاح” ولمطالب الإدارة الأميركية في العقوبات ضد إيران و”حزب الله”، وخصوصاً ضد نظام الرئيس بشّار الأسد في سوريا.
وأول الغيث، هو الإرباك الذي أصاب مجلس الوزراء عند طرح دياب ونائبته وزيرة الدفاع زينة عكر نصّ “مشروع قيصر”، ليكون على طاولة البحث، ولاتخاذ موقف منه. وعلى الأرجح، سيحاول كل طرفٍ تمرير “القطوع” بطريقة ملتبسة، فلا يغضب الأميركيون ولا يشعر “الحزب” ولا السوريون أنّهم تعرّضوا لضربةٍ “من بيت أبيهم”.
ولكن، هل هناك مجال ليقف دياب في المنطقة الرمادية عندما يكون القانون أكثر من حيوي بالنسبة إلى الأميركيين؟ وهل تمتلك حكومته “ترف” المناورة والتمييع هنا، فيما هي تنظر بلهفةٍ إلى رضا الأميركيين ومبادرتهم إلى “فكّ المربوط” من المساعدات الدولية؟
أساساً، لا مجال لتمييع إضافي في مسألة “قانون قيصر”، فوق التمييع بالإصلاح الذي تعتمده الحكومة في مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي. فدياب لا يريد التجاوب مع الإصلاح جدّياً، وفي العمق، لئلا يُغضب “حزب الله” وشركاءه السياسيين الذين ستتضرّر مصالحهم.
في الأيام الآتية ستشتدّ المعركة وسيكون “قيصر الحكومة”، الرئيس دياب، مطالباً بالخروج من المناطق الرمادية كلها. يعني ذلك أنّه سيعتمد واحداً من الخيارات الآتية:
1 – أن يستجيب للأميركيين على طريقة “عليَّ وعلى أعدائي”، وهذا أمر مستبعد لأنّ أكلافه باهظة.
2 – أن يستجيب لهم، ولكن بالتنسيق مع “حزب الله”. وهذا خيار مستبعد جداً لأنّه بمثابة استسلام لـ”الحزب”.
3 – أن ينسحب دياب من الحكومة من تلقاء نفسه. وهذا خيار مكلف أيضاً، لأنّه لا يمتلك على الأرجح خيار الانسحاب بلا تنسيق مع النافذين الذين دعموا وصوله.
4 – أن ينسحب من الحكومة بالتنسيق مع “الحزب”، لعلّ ذلك يكون الأقلّ ضرراً للجميع.
5- أن يعمد «الحزب» إلى حسم الأمور باكراً ويبادر إلى نسف الحكومة مستخدماً حُجَجاً مختلفة.
بعض المطلعين يتداولون في الأيام الأخيرة سيناريو ينطلق من أحد الخيارين الأخيرين: تنتقل الحكومة إلى حالة تصريف الأعمال، وسط تعثُّر (مقصود ربما) في إيجاد البديل. وفي هذه الحالة يمكن تمرير الأشهر الحسّاسة الفاصلة عن تشرين الثاني، موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية. وبعد ذلك يكون لكل حادث حديث.
وفق المطلعين، إذا دخل لبنان في هذا الخيار فسيغرق في مأزقه المالي والنقدي والاقتصادي حتى الاختناق شبه الكامل. وسيكون صعباً تَصوُّر حجم الكارثة التي سيعيشها اللبنانيون خلال هذه الفترة. ويُقال: حتى مؤونات القمح والأرزّ والسكر والوقود ستكون في خطر.
في هذه الحفرة العميقة، هل هناك مَن يعتقد أنّه سيكون مستفيداً أو في منأى عن الوجع؟ الجميع يراجعون حساباتهم بدقّة قبل حسم القرارات التي سيُجبرون على اتخاذها”.