كتبت هيام القصيفي في “الأخبار”: رحل ابن الكنيسة المارونية الذي لم يحمل عصا البطريركية بسبب من قرر من الداخل ومن مجمع الكنائس الشرقية في الفاتيكان إنهاء خط البطريرك مار نصر الله صفير، وأعرب لاحقاً عن ندمه. يوسف بشارة من أواخر المطارنة الأفذاذ الذين يُكتب عنهم؛ فأي رقيم بطريركي اليوم لن يفيه حقه، وهو الذي حاربه البيت البطريركي ومعه أساقفة أقل منه شأنا ومعرفة، وأكثر منه تعلقاً بالمال والسلطة، أساقفة لا ينتمون الى الخط البطريركي بالنظرة الى لبنان الكبير – الياس الحويك، ويعادون خطه السياسي والوطني والشخصي الى حدّ إسقاطه في معركة خلافة صفير. هم أنفسهم الذين حقدوا عليه حتى في مماته ساعين الى منع إقامة مأتم عام له. هو من الاصوات الكنسية الحكيمة القليلة في زمن الاصوات الفارغة، الكاهن الشاب الذي ثار لإصلاح كنيسته مع المطارنة هيكتور الدويهي وفرنسيس البيسري وبولس اميل سعاده، حين كانوا يؤلفون مع آخرين “تجمع كهنة الشمال الفرعي”.
المطران الذي يقال عنه إنه “المسيحي” في كنيسة عرفت مجدها مع مجموعة راقية من أساقفة الفقر والتواضع والعلم، وتعيش أيامها السوداء. رجل فكر وثقافة مشهود له، قارئ نهم ومستمع للموسيقى الكلاسيكية، وهادئ بطبيعته وقوي بعزيمته. مارس مهام عديدة وتولى لجاناً وإدارات كنسية عديدة، راع لأبرشية انطلياس، ومدافعاً عن لبنان والكنيسة في السينودس من أجل لبنان، وعن رؤية بكركي – صفير للبنان واستقلاله وسيادته في ترؤسه لـ«قرنة شهوان»، ونموذج كنسي بعدالته وانتمائه وأسراره وخادم في العمل الرعوي والاجتماعي من دون تبجّح. شخصية مليئة بالحنكة والذكاء والعمل بلا ضجيج، صاحب نكتة وسرعة بديهة وابتسامة خفية وعينين “تشرقطان”. كُتب لابن عربة قزحيا قضاء زغرتا ألا يكون كاهناً عادياً، أو مطراناً لا صوت له ولا رأي، عالم متواضع ومفكّر من دون ادعاء، شجاع وصلب، لا يخشى رفع صوته وقول ما يريده في أصعب اللحظات. قلة معدودة من مفكرين وسياسيين بقيت على وفاء صداقته. علمانيون وكهنة ربطتهم به صداقة والتقاء فكر ووعي، يخبرون عن هذا المزيج من الوداعة والصلابة والذكاء الحاد. محنك سياسي، لم يستطع تطويعه نظام أو جهاز، ولا سيما لأنه لم يعرف عنه فضيحة أو مس بالأعراف والمقدسات.
قاد أول نواة سياسية لبكركي في أحلك ظروفها السياسية ضد الوجود السوري وسلوكيات ما بعد الطائف الذي دافعت عنه الكنيسة، وضد الممارسات في حق الاحزاب المسيحية كلها من دون استثناء. يُظلم بشارة حين يختصر البعض دوره في كلمات «السيادة والحرية والاستقلال»، لأنه شخصية قائمة بذاتها أثبت نضجه السياسي وحنكته في السينودس من أجل لبنان، ولاحقاً في المجمع الماروني. وما قام به في تلك المرحلة يتعدّى الشعارات أو طموحات بعض الشخصيات التي استظلت موقعه لغايات لا تتوافق مع توجهات بكركي، وبانوا على حقيقتهم حتى قبل أن ينفرط عقد قرنة شهوان. يروي بنفسه كيف انبثق اللقاء عام 1999 من «سياق الخط الوطني الذي رسمه الإرشاد الرسولي عام 1997». وهذه أهمية بشارة في السينودس حين جعل الرسالة البابوية تشكل مظلة حماية للبنان، مسيحيين ومسلمين، رغم أنه هوجم من عدد من حلفاء سوريا حينها. يقول في مذكراته إن حملة شعواء شُنّت ضده وعلى النص حين نشر في الصحف اللبنانية، وفيه عبارة «جلاء الجيش السوري». وأبدى أسفه لأن الشق الوطني من الإرشاد الرسولي لم يلق التجاوب اللازم من السياسيين.