مع تفاقم المعاناة المعيشية نتيجة انعدام وزن الليرة في مواجهة الدولار، كان من الطبيعي ان ينفجر الاحتقان الشعبي في الشارع، بعدما ضاقت الخيارات والسبل أمام كثير من اللبنانيين المحاصرين بشتى انواع الازمات.
لكن في مثل هذه الظروف يسهل أيضاً الاختراق ودسّ أجندات سياسية او َشخصية بين المتظاهرين الغاضبين، كما حصل في بيروت وطرابلس اللتين كانتا مسرحاً لمواجهات عنيفة، أُدير بعضها بالـ”ريموت كونترول”، وفق تأكيد مسؤول أمني كبير.
وعليه، فإنّ انتفاضة 17 تشرين الأول، بطبعتها الأولى، ليست سوى نزهة في الشارع، بالمقارنة مع موجات العنف التي تتلاحق منذ أن بدأ الدولار يسجّل ارتفاعات شاهقة ويلتهم القيمة الشرائية للعملة الوطنية، حيث راح الحابل يختلط بالنابل، والمتظاهر الصادق بذاك المدفوع الأجر، الأمر الذي أدّى تارة الى احتكاك بين خطوط التوتر العالي الطائفية والمذهبية، كما حصل في 6 حزيران، وطورًا الى فوضى حارقة، على نحو ما جرى في طرابلس ووسط بيروت منذ ايام قليلة.
وما احترق في العاصمتين الأولى والثانية ليس فقط الحجر وإنما هيبة الدولة بالدرجة الأولى، وهذا ما دفع مرجعياتها السياسية والامنية الى محاولة ترميم تلك الهيبة، من خلال اجتماع مجلس الدفاع الأعلى وإطلاق رئيسي الجمهورية والحكومة دعوة الى الحزم في مواجهة “الزعران”.
وتبدو حكومة الرئيس حسان دياب هي الهدف المشترك الذي يُصوّب عليه، لاعتبارات مختلفة، كل من المتظاهرين العفويين، والمستثمرين في الحراك من خلف الستارة، والمستفيدين السياسيين من الفوضى، حتى لو لم يكونوا شركاء في إحداثها.
ولعلّ تأكيد دياب أنّه تمّ إحباط الانقلاب، يعكس حجم الاستهداف الذي يشعر به في هذه المرحلة المفصلية، في وقت يجزم العارفون بأنّ القوى السياسية التي منحت الحكومة إكسير الثقة النيابية، ليست حالياً في وارد رفع الغطاء عنها، وانّ اي بحث في اسقاطها او تعديلها لم يحصل بين تلك القوى، من دون أن يعني ذلك أنّ “الجهات الراعية”، ومن بينها “حزب الله”، لا تملك ملاحظات على السلوك الحكومي عموماًَ وعلى نهج عدد من الوزراء المتعثرين خصوصاً.
ما هي أبعاد أعمال العنف الأخيرة، خصوصاً في وسط بيروت، ومن يقف خلفها؟
يؤكّد المسؤول الأمني الكبير، انّ جانباً من المحتجين كان مكلّفاً “امر مهمة” تخريبياً في الوسط التجاري، من غير أن ينفي ذلك وجود عامل نفسي “رافد”، ويتمثل في شعور فئة من الفتية والشبان الفقراء والمهمشين بالغبن المضاعف، عندما يقارنون بين أوضاعهم الاجتماعية المزرية وبين مظاهر الثراء والبحبوحة في وسط العاصمة، “ما يولّد لديهم نزعة جارفة للثأر الطبقي تتخذ الطابع العنفي”.
لكن يبدو واضحاً، بالنسبة إلى المسؤول إيّاه، انّ هناك من وظّف هذا الشعور واستثمره لخدمة مصالحه الخاصة، لافتاً إلى أنّه أصبح لدى الأجهزة المختصة التصور الواضح لسيناريو الأحداث المتدحرجة خلال الأيام الأخيرة.
ويعتبر المسؤول الأمني الرسمي، انّ المطلوب عدم الاكتفاء بملاحقة المنفذين او الصغار، الذين هم مجرد أدوات في لعبة اكبر منهم بكثير، مشدّداً على ضرورة “قطع رأس الافعى، من خلال توقيف محرّضيهم ومشغلّيهم”، لافتاً الى انّ هؤلاء يستخدمون مرتكبي أعمال الشغب وقوداً لتشغيل محركات مصالحهم.
َويؤكّد المسؤول الأمني “انّ لدى الأجهزة الغطاء السياسي للقبض على المخططين الكبار”، لافتاً الى “انّ الوصول إليهم هو أفضل بكثير من الانشغال بتوقيف مئات من سائقي الدراجات النارية الذين ينفذون أوامر مشغليهم”، مشيراً الى انّه “سيتمّ تعزيز الأمن الاستباقي في مواجهة مخططات التخريب والفتنة، مع ما يتطلبه ذلك من تفعيل لدور مديرية المخابرات في الجيش والأمن العام وشعبة المعلومات في قوى الأمن”.