الشيعية على لسان شارعها

طموح إلى هيمنة داخلية جديدة في مكان هيمنة قديمة

20 يونيو 2020آخر تحديث :
الشيعية على لسان شارعها
أحمد جابر
أحمد جابر

ربما افتتح جمهور “شيعة.. شيعة” سجالاً “كيانياً” لبنانياً مغيباً، وربما دعا بصيحاته، إلى مراجعة تذكيرية سياسية لبنانية ضرورية، يتجاهلها أبناء السيرة الاستقلالية، ويهربون من الوقوف أمام متغيراتها، إلى إلقاء الكلام الإنشائي عن ثبات أسسها ومعناها. ولأن الوقائع عنيدة، فإن قرع جرس عالم المادة يقلق دائما بال عالم المثل.

وإذا كان الماضي، بمحمولاته الشعبية كافة، يستمر صالحاً كمرجع لاستحضار “فولكلوري” حنيني، فإن الحاضر، بثقل حساباته ومصالحه، سرعان ما يقطع حبل الاسترسال في مخيال الماضي وخيالاته.

ثالث الثنائية
لن ينسب جمهور “شيعة.. شيعة” خطاب الشارع إلى بنات أفكاره، ولن يأخذ المجموع الأهلي اللبناني بهذه النسبة، فلقد تلقى الجميع الرسالة الشيعية على خلفية قول الجمع باسم الجمع. هذا هو الأقرب إلى الواقع، وهذا يؤكد صواب الخلاصة السياسية التي تبدأ من جملة: هذا موقف الثنائية الشيعية، أي موقف حركة أمل وموقف حزب الله، موقفان متناغمان غير متطابقين، منسجمان على غير تنافر حاد، متقاربان على غير تباعد جاد.

وعليه، فإن العبرة ليست في لهجة الهتاف في الشارع، ومن غير الجدوى البحث عن مدى ملاءمة الصيحات لمجموع “النوايا” المضمرة.

لكن الأساسي والأهم، هو إعلان توافق وانسجام المواقع الزمنية للشيعية السياسية، مع مواقعها الشعبية، وما كان ثنائية في السياسة، صار ثلاثية في المذهب وفي السياسة، بعد أن احتل ممثلو المواقع الأهلية مقدمة الصفوف.

وبناءً عليه، صار الشارع الشيعي طرفاً ناطقاً ثالثاً يطرح سؤال: ما الجديد الذي باتت تحمله رسالة الثلاثية الشيعية؟ وما القديم الذي أثارته ودعت إلى استحضاره؟

وما المسكوت عنه الذي دعت إلى النطق به، وإلى طرحه في ميدان التداول، وعلى كل لسان؟

جديد الثلاثية
الجديد الذي أدلت به الثلاثية الشيعية، ليس جديداً كله، فمنه ما هو معروف، في بنية التوازنات الداخلية، ومنه ما هو معلوم، من أمر تراتبية الإمرة السياسية، ومنه ما هو ملموس، في ميدان التأثير في وجهة العلاقات الخارجية، وعلى مجموع الصعد، العربية والإقليمية والدولية…

لكن الجديد الذي كان كامناً، هو الإعلان عن الطموح “الاستبدالي” الذي تسعى إليه الشيعية، سياسياً، وصيغوياً، وميثاقياً، بحيث تحل هيمنة داخلية جديدة، في مكان هيمنة قديمة، وهذا ما يفضي، في حال اكتمال عقده، إلى المس بواقع الكيان اللبناني، مساً بنيوياً، بحيث ينبري كل مكون من مكونات “المجموعات” اللبنانية، إلى الإعلان عن سحب توقيعه وموافقته، من اتفاقية التعايش المشترك، التي صيغت من تفاهمات شفوية، ومن اتفاقيات دستورية وتشريعية مكتوبة، ومن يوميات سياسية، انعكست صورها في لوحة الهيئات الرسمية والشعبية.

لقد راكمت الثنائية الشيعية، على طريق استواء هذا الجديد وانبعاثه، منذ تأسيس حركة المحرومين، التي قادها الإمام موسى الصدر، وتعرجت مسيرة التراكم وتبدلت، فتنقلت بين شرعية مطالب رفع الغبن، ومطلب الحصول على حصة من الغُنم في الدولة، ومن الدولة، إلى الخروج المتدرج على ممكنات الدولة، وصولاً إلى النسخة الحالية من الشيعية، التي يتصدر قيادتها حزب الله، والتي تتجاوز على مناعة البنية اللبنانية، فتطرح من المطالب الفئوية، وتعلن من النزوع إلى التحكم بمصير مسارات البنية، بما يهدد بانفراط عقد الذين ارتضوا الانتظام تحت سقف البنية، طوعاً، أو قسراً، أو على مضض، أو على أحوال متنوعة، جاء على ذكرها التاريخ الذي كتب يوميات “الكينونة” اللبنانية، عندما كان إطار تجميعها صغيراً، وعندما أعلن كبيراً، وعندما صار مستقلاً، استقلالاً ما زال متأرجحاً “بين الصغير والكبير”.

تذكير أهلي
التجاوز السياسي الأهلي، الوافد من جهة الشيعية، ليس تجاوزا يتيما في السيرة الاستقلالية اللبنانية. سيكون مفيداً، وفي سياق التذكر والتذكير، ذكر محطات مفصلية داخلية تجاوزية، كان لها طموح الشيعية الحالية ذاته، مما يفيد أنه كان لكل تجاوز ماضٍ، نسخته السياسية المستقاة من لحظته الزمنية، ومن توازنات أيامها، ومن حساب قوى التجاوز، ومصالحها المادية، بعيداً من نص النشيد الوطني اللبناني، الذي مازال نصاً.

سردياً، استقالة رئيس الجمهورية الأول، الشيخ بشارة الخوري، أتت على حاملة تجاوز حاوله الرئيس “الميثاقي” الأول، عندما رأى مصلحة في استمرار حكمه، فسعى إلى تجديد ولايته، على الضد من رغبة الفريق الأوسع الذي عارضه، من ضمن التشكيلة الرسمية، ومن خارجها.

التجاوز الثاني الخطير، كان سمة لعهد الرئيس الاستقلالي الثاني، كميل شمعون، فلقد أدت سياساته الداخلية والخارجية، إلى اندلاع “نزاع” أهلي، في سنة 1958، ولم يتورع الرئيس يومها، عن استدعاء واستقبال تشكيل قتالي، من الأسطول السادس الأميركي، في مواجهة ما اعتبره تهديداً عروبياً وإسلامياً، للكيان اللبناني.

التجاوز الثالث” البيني” أقدم عليه التحالف الثلاثي الذي تشكل من أقطاب المارونية السياسية الثلاثة، كميل شمعون وبيار الجميل وريمون إده، في مواجهة المحاولة “التحديثية الدولتية”، التي اعتمدتها سياسات الرئيس الاستقلالي فؤاد شهاب.

أما التجاوز الأخطر، على الكيان والصيغة والميثاق، فهو انفجار الحرب الأهلية اللبنانية سنة 1975 عهد الرئيس سليمان فرنجية. لقد كانت تلك الحرب تتويجاً تجاوزياً لما سبقها في عهود رئاسية سابقة، فأخذت من نسخ الماضي، وأضافت إليه من نسختها، وكان الأبرز من كل تلك النسخ، واقع انغلاق النظام الطائفي اللبناني على خيارات تطويره وإصلاحه، وواقع ارتباك وتخبط المعارضات اللبنانية في خطبها وفي برامجها وفي هوياتها، بحيث لم تتخلص من التباسها الأهلي، الطائفي والمناطقي والإيديولجي الشمولي، وهي تدعو إلى إصلاح، أو تغيير النظام، المعرف تعريفاً طائفياً، والموصوف بكل النعوت الإيديولوجية المقيتة.

الحرب الأهلية المذكورة، ما زالت مستمرة، وتبدلات توازنات قواها، وتغير تراتبية مواقع هذه القوى، مازال متواصلاً، لذلك فإن التجاوز الذي تقدم عليه الشيعية، وعلى ألسنة عدد من أقطابها، يشكل حلقة في سلسلة تجاوزات.

وعلى سبيل التذكير، لقد ورث الطموح الشيعي مقعده الانتقالي المتقدم، بعد تراجع أكثر من مكون أهلي إلى المقاعد الخلفية، عملياً، وليس صورياً.

من خلال العودة السريعة إلى سنة 1982، سنة احتلال العاصمة بيروت، وما توالى بعد ذلك الاحتلال حتى تاريخه، تطلع خلاصة من شقين، الأول، تراجع موقع ودور ونفوذ المارونية السياسية، والثاني، تراجع وضمور واستضعاف وضعف، موقع السنّية السياسية.

للتراجعين الآنفين سيرة سياسية معلومة، وهاتان السيرتان التراجعيتان، أضافتا قوة إلى السيرة الشيعية الصاعدة، التي كانت تؤسس وتثمر ركائز قوتها الخاصة.

ما جرت الإشارة إليه ليس تأريخاً، بل هو تنبيه إلى ضرورة جذب النقاش إلى مواضيعه، ونقاش المواضيع يكون فوق أرضها المادية، وهذه الأخيرة ليست إلا من “تراب” مصالح وتوازنات، ومن أهداف وسياسات.

النقاش على هذه السوية، الواقعية المصلحية، يسهل معه التمييز بين ما هو مشروع من مطالب أطراف التشكيلة اللبنانية، وما هو غير مشروع منها، كذلك يسهل تبويب المطالب ووضعها على جداول الممكن والمتاح والمسموح والضروري، أو على جداول غير الممكن والصعب والممتنع وغير الراهن، ولكل تصنيف تفسيره المشروح بوضوح، وتعليله المفهوم من دون إبهام.

خلاصة القول، هذه دعوة إلى الاعتراف بمأزق التشكيلة النظامية بعد كل ما أصابها، وإلى الاعتراف بالإزدواجيات التي يعيش في ظلها لبنان، في القول وفي العيش، وفي الهواجس وفي السياسات، وفي المشاركة التي باتت أقل “اشتراكية”.

مأزق المسكوت عنه
لقد حرك صوت شيعية الشيعة “عش دبابير” المسكوت عنه توافقياً. وما حصل مفيدٌ على طريق الوضوح.

في هذا السياق، التوافقية صارت ممالأة ومخاتلة ومخادعة، وتحمل مكابرة وتضليلاً وتحويراً وهروباً من المواجهة.

هذا يلقي المأزق الحالي في وجه الجميع، ويطرح على الجميع الإفراج عن القليل مما يدور في البيئات الخاصة، بعدما أفصح “الجمهور المحتقن” عن أكثر من القليل.

ربما شارك إعلان الكلام الخبيء في دفع النقاش إلى نور تسووي واضح ما، ومع العلم بعجز النظام وأهله، ومع إدراك صعوبة تغيير بنية الأهل والنظام، ربما ساهم كشف المستور في منعه من التحول إلى مستور أهلي انفجاري.

من الأمثلة المستورة، حديث “شيعي” داخلي عن التفوق الانتصاري، وعن كيفية أخذ التفوق إلى مداه.. وهذا أمر خطير لبنانياً.

وهناك حديث “مسيحي” يقول بجغرافيا نضالية، فلتأخذها الشيعية ولتمارس “مقاومتها” فوقها، ولتتحمل وحدها تبعات أعمالها، وهذا خطير كيانياً.

وهناك حديث “سنّي” يقول باستحالة اللقاء داخلياً مع الشيعية، بعد أن صارت هذه الأخيرة أداة “للعدو” الإيراني، وهذا خطير تكوينياً.

هل يعلم المتواضحون منبرياً، بإبهام ما يدور في “المجالس بالأمانات”؟

على الأرجح هم يعلمون. إذن، لماذا استمراء الكذب؟

ولماذا لا يكون كلام المجالس مفيداً إذا كانت المنبرية مضرة؟

ولماذا استهجان كلام الشارع؟ قولوا كلاماً شارعياً.. هل أنتم قادرون؟

المقالات والآراء المنشورة في الموقع والتعليقات على صفحات التواصل الاجتماعي بأسماء أصحـابها أو بأسماء مستعـارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لموقع بيروت نيوز بل تمثل وجهة نظر كاتبها، و”الموقع” غير مسؤول ولا يتحمل تبعات ما يكتب فيه من مواضيع أو تعليقات ويتحمل الكاتب كافة المسؤوليات التي تنتج عن ذلك.

المقالات والآراء المنشورة في الموقع والتعليقات على صفحات التواصل الاجتماعي بأسماء أصحـابها أو بأسماء مستعـارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لموقع “بيروت نيوز” بل تمثل وجهة نظر كاتبها، و”الموقع” غير مسؤول ولا يتحمل تبعات ما يكتب فيه من مواضيع أو تعليقات ويتحمل الكاتب كافة المسؤوليات التي تنتج عن ذلك.

المصدر المدن