معظم أسباب تلك الأزمة، ذاتي ينبع من سوء الإدارة والقليل النادر منها يرتبط بالتدهور المالي- الاقتصادي- الاجتماعي والذي لا يمكن لقيادة “التيار الوطني الحر” أن تغسل يديها منه، كونها شريكة في السلطة منذ العام 2008 بعد تسوية الدوحة، وتحتل موقع رئاسة الجمهورية منذ العام 2016 وتملك أكبر كتلة نيابية وصاحبة كتلة وزارية وازنة.
التراجع ليس وليد الأمس، هو مسار دراماتيكي هبط بنسبة الـ70% إلى نصفها! نجحت القيادة طوال الفترة الماضية في الغرف من المكاسب السياسية لتغطي عوراتها الداخلية، إلى أن فضح الحراك الشعبي المستور وأسقط ورقة التين الأخيرة. وما الحجج التي تسوقها القيادة تارة تحت عنوان “ما خلونا نشتغل” وطوراً بالتهويل بالانتقال إلى صفوف المعارضة في خطوة تعكس انفصاماً في الشخصية، إلا لتثبت عجزها عن تقديم اجابات مقنعة وشافية تبقي الناس في الفلك البرتقالي.
عملياً، أثبتت أحداث 17 تشرين بالعين المجرّدة أن كامل الطبقة السياسية تقف على رمال متحركة، وأنّ الاستعراضات الاعلامية التي كان رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل بطلها بلا منازع، لم تكن سوى آخر أوراق الرهان على الوقت، حيث فضح انفجار الشارع الهوة القائمة بين الطبقة والشارع. “كفر” السواد الأعظم من الناس بكل الجالسين على كراسي السلطة، ولو أنّ للأحزاب مؤيديها، رغم تراجع نسبهم الى حدودها الدنيا.
ومع ذلك، تعاملت قيادات عونية معارضة مع “التيار” بقرار واضح، وبأعصاب باردة، يقضي بإدارة مواجهة مدروسة مع القيادة من دون العمل على خلق اطار تنظيمي بديل، رغم قناعتها أن الوضع الى انهيار، وقد عبّرت هذه القيادات في مناسبات عديدة عن الأخطاء التي تقترفها القيادة والتي ستودي إلى الهلاك الحزبي، وحذرت من بلوغ القعر الذي كان جلياً أمامها.
بقيت الفواصل حاضرة في العلاقة، في موازاة حركة هادئة تستهدف تنظيم الصفوف المعارضة. ابتعد قياديو هذا الصف، ومعظمهم من الرعيل المؤسس، عن الضوضاء والأضواء، والتزموا العمل النضالي على طريقتهم. لم ينحرفوا عن الخط التاريخي ولم يذوبوا في أي تيارات رديفة أو موازية ولم يتحولوا إلى أصوات نشاز كما يحصل عادة في الأحزاب اللبنانية. لم تتوقف اللقاءات، سواء على المستوى الداخلي أو مع “رفاقهم” القدامى، بعدما حدّد المعارضون لأنفسهم مساراً تصاعدياً وفق خريطة طريق واضحة تأخذ في الاعتبار الظروف السياسية المحيطة، وذلك قبل وبعد انضمام عدد من ضباط الجيش المتقاعدين ممَّن رافقوا عون عن كثب في مسيرته العسكرية. كما عززوا بعيداً من الاعلام خطوط التواصل مع قياديين في الحزب وكوادر وقواعد مناطقية، بالتزامن مع التنسيق الدائم والدوري مع العميد المتقاعد شامل روكز، وتوسيع بيكار نشاطهم مع مختلف القوى السياسية. وقد عُقد أكثر من اجتماع موسّع ضمّ مجموعة كبيرة من الكوادر ناقشت الوضع الراهن وما آلت إليه التطورات. الهم ذاته: الخشية على المستقبل. والهاجس نفسه: ماذا نفعل للانقاذ؟
من أسماء هذه المجموعة: العميد المتقاعد طوني عبد النور، العميد المتقاعد فؤاد الأشقر، العميد المتقاعد حنا المقدسي، العميد المتقاعد انطوان قصاص، كمال اليازجي، طوني مخيبر، توفيق سلوم، طانيوس حبيقة، رمزي كنج، جاك حمزو، طوني أبي عقل، نعيم عون، ايلي بيطار، انطوان نصر الله، ميشال كيروز، طوني العتيق، سامر بشعلاني…
شارك معارضون عونيون، من القيادات الأساسية وتلك المناطقية، في حراك 17 تشرين الأول بقوة، ونصبوا خيماً واستضافوا وشاركوا في ندوات توعوية وتماهوا مع الناس المنتفضة، خصوصاً وأنّه سبق لهم أن نبهوا إلى هذا الانفجار الحتمي، كما أن بعض قيادات “الثورة” من مختلف المجموعات، كانت “عونية الهوى” أو من المؤيدين القدامى، باتت الحاجة بنظرهم الى جبهة معارضة أكثر من ملحة. ولهذا كثفوا لقاءاتهم واتصالاتهم مع معارضين يتشاركون معهم الكثير من الأفكار والطروحات. التواصل كان مع كل الاطراف المعترضة التي تشبههم لتشكيل بدائل عن الطبقة الحاكمة. لم يستثنوا أحداً من جلسات الحوار بحثاً عن اجابات عن أسئلة وجودية باتت تطاول كل اللبنانيين. وما حصل يوم السادس من حزيران لم يكن عابراً. ثمة خشية من تحوير “ثورة 17 تشرين الأول” وحرف مسارها عبر لعبة مكشوفة من جانب السلطة. ولهذا يجري العمل لتحصين روح الانتفاضة وابقائها “نظيفة” لتكون شعلة المرحلة المقبلة. هكذا، تجرى الاستعدادات في صفوف المعارضين العونيين لاطلاق مرحلة جديدة، عبر تكثيف الاطلالة الاعلامية (مؤتمر صحافي قريب) الهادفة أولاً إلى دق جرس انذار أخير، والاعلان عن الانتقال إلى مربع جديد من العمل الميداني للقاء “رفاقهم” القدامى والجدد وكل من يتشاركون معهم في الرأي وفي الفكرة وفي الخوف على المستقبل، والعمل على خلق جبهة تضم العدد الأكبر من الراغبين، يكون الجميع فيها شركاء تحدد رؤية مشتركة لما هو قادم في الاشهر القليلة المقبلة وتتفق على النقاط الاساسية والضرورية لهذه المرحلة. ثمة هاجس قد لا يعبر عنه كثر من هؤلاء، لكنه يظهر بين سطور أفكارهم السياسية: ماذا سيحلّ بالقواعد العونية وهؤلاء الناس الذين آمنوا بأفكارهم النضالية بعد انفجار البركان الشعبي؟ الطوفان آت لا محال ولن يعفي أحداً من نيرانه. ولذا لا بد من صرخة أخيرة تطاول الوجدان المسيحي وتحمل أصحاب الضمائر الحية على البحث عن أطر بديلة للمستقبل.