في الأيام الماضية تقاطعت تقارير الأجهزة الأمنية عند خلاصة واحدة: تدَحرج كرة التحرّكات في الشارع وقطع الطرق في المناطق والأوتوستراد الدولي ليس سوى عملية تمهيد باتجاه التصعيد الكبير.
الأزمة باتت بلا سقف والشارع يغلي في ظلّ عجز رسمي عن كَبح جماح الارتفاع الجنوني في سعر صرف الدولار ولجم التداعيات الكارثية لتحليق أسعار المواد الغذائية الأساسية. لا أحد من الجالسين على كرسيّ الحكم اليوم قادر على توقّع حجم التسونامي الشعبي!
عملياً قدّم مشهد منطقة الجية يوم الجمعة نموذجا مصغّراً عمّا يمكن أن يشهده الشارع المحقون إلى حدّ الانفجار. “حساسية” الطريق الدولية التي تصل بيروت بالجنوب عادت بقوة إلى الواجهة، ومرّة أخرى يجد الجيش نفسه في مواجهة متظاهرين انقسمت الآراء حولهم بين “قطّاع طرق” وبين “ثوّار” ناقمين على ما وصلت إليه الأمور.
وفق المعلومات، لا هوية حزبية واضحة للمتظاهرين الذين شلّوا الطريق الدولية في الجية عند مفرق برجا. قيادتا “تيار المستقبل” و”الحزب التقدمي الاشتراكي” رفعتا الغطاء عن قاطعي الطريق الدولية، فيما ترصد الأجهزة الأمنية تحريكاً “عن بعد” لهؤلاء من جانب مسؤولين فيهما، خصوصاً أنّ داخل الحزبين آراءً متضاربة حول قرار النزول إلى الشارع وتوقيته.
وقد اكتسب المشهد خطورة أكبر مع انفلاش بقعة الأصوات المهدّدة من بيئة “حزب الله” بعدم ترك طريق الجنوب سائبة تحت رحمة “قطاع الطرق” وهو الأمر الذي انعكس بصراحة على لسان الشيخ صادق النابلسي من حزب الله، حين علّق على زحمة السير الخانقة على طريق الجية بالقول إنّ “خطوط مواصلات الناس هي خطوط اتصالات المقاومة. السلم الأهلي قد يحتاج يوماً ما إلى حضور القمصان السود مجدّداً”.
التعاطي مع الشارع تحكمه ثوابت عدّة لا نقاش فيها على رأسها منع قطع الطرق، ومنها ما يكتسب أهمية مضاعفة كطريق الجنوب –بيروت التي يمكن أن تشهد تصادماً مذهبياً خطيراً
في هذا الإطار، تفيد معطيات أنّ مجموعات تابعة لـ”الثنائي الشيعي” تتحضّر لتحرّكات على الأرض اعتراضاً على أزمة الدولار وارتفاع الأسعار، فيما تتخوّف الأجهزة الأمنية من حصول تصادم مجدداً بين “شارعين” من خلال التسلّل من “شارع” التحرّكات المطلبية.
وربما هذا ما يفسّر الحزم الذي طبع أداء الجيش في محاولته فتح طريق الجية التي أدّى إقفالها الى سجن آلاف اللبنانيين لساعات طويلة داخل سياراتهم وسمح لفئات من المتظاهرين بالتعدّي المباشر على سيارات المارّة وعناصر الجيش.
تؤكد مصادر عسكرية في هذا السياق لـ”أساس” أنّ “التعاطي مع الشارع تحكمه ثوابت عدّة لا نقاش فيها على رأسها منع قطع الطرق، ومنها ما يكتسب أهمية مضاعفة كطريق الجنوب –بيروت التي يمكن أن تشهد تصادماً مذهبياً خطيراً، واختناق الآلاف في سياراتهم والتسبّب بأذية مضاعفة لمن يرزح تحت وطأة أزمة معيشية لا سابق لها في تاريخ لبنان. إضافة إلى ضرورة منع التعدّي على الأملاك العامة والخاصة والحذر الشديد في التعاطي مع المدنيين بإفساح المجال لأكبر قدر من حرّية التحرّك والتعبير بما لا يتعارض مع الانتظام العام وأمن الدولة القومي”.
وربطاً بما تعرّضت له بيروت وطرابلس في الأسابيع الماضية من تخريب منظّم تقول المصادر: “لقد قيل هذا الكلام أكثر من مرّة على طاولة المجلس الأعلى للدفاع وهو أنّ القوى الأمنية والعسكرية تتحرّك بموجب الخطة المتفق عليها لناحية تقسيم المناطق، وبيروت هي من صلاحية قوى الأمن الداخلي والجيش يتدخّل عند طلب المؤارزة”.
وتسلّم المصادر العسكرية بـ “حالة الاستنزاف التي تشعر بها القوى العسكرية. فما ينطبق على المدنيين من سوء الحال والانهيار الهائل في قيمة الليرة اللبنانية يعاني منه الضابط والعسكري، لكن في ظلّ مسؤوليات تُلقى على عاتق العسكري وضعته في ظرف صعب بمواجهة شارع يملك بمعظمه مشروعية التمرّد على الأمر الواقع”.
عملياً يبدو الجيش أمام المهمّة الأصعب منذ تسلّم القيادة العسكرية مهامها برئاسة العماد جوزف عون: إنفلاش للتحرّكات الشعبية، قد لا يكون قابل للسيطرة، من الشمال إلى الجنوب وبيروت والجبل والبقاع، مع الجولات المتكرّرة من اعتراض شاحنات نقل المواد الغذائية على طريق الشام وفي طرابلس وعكار، وتولّي الجيش مهمة توزيع المساعدات، وقمع أعمال الشغب، والجهد الاستثنائي الذي يبذل على خطّ إقفال المعابر غير الشرعية وآخرها إقفال معبر حرف السماقة ومعبرين ترابيين كان أعيد فتحهما من قبل المهرّبين. إلى جانب مهام الجيش الاعتيادية على الحدود الجنوبية، والمتابعة الدائمة لخلايا إرهابية، ورصد تحرّكات مشبوهة على الحدود الشمالية قد تكون مرتبطة بالمخابرات التركية، ونشاطه على خطّ العشائر شمالاً وبقاعاً، والعمل على خطّ الأمن الاستباقي، والكوارث الطبيعية … كلّ ذلك وسط أجواء من الشحن الطائفي والمذهبي قد تعجز كلّ طاولات الحوار عن لجمه.
الجيش، وفي ظلّ أزمة مصيرية من هذا النوع تقارب الفوضى، يجب أن يكون أكثر حزماً في حفظ الأمن وقمع المعتدين على الأملاك العامة والخاصة
وتقرّ المصادر العسكرية “بتعرّض الجيش لحملات منظّمة تحاول تصويره أنّه ضدّ ناسه. ومنها اتهامه بتعذيب موقوفين في صيدا مع العلم أنّ القيادة العسكرية فتحت تحقيقاً داخلياً، وتمّ الاستماع إلى العناصر المعنيين في الجيش فيما رفض مطلقو الاتهامات المثول أمام المحقّقين لتبيان صحّة ادّعاءاتهم ضد الجيش، وقد أحيل الملف الى النيابة العامة العسكرية. كما أنّ التقارير الطبية أظهرت عدم صحة هذه الادعاءات”.
وتفيد معلومات أنّ مفوّض الشرق الأوسط في “اللجنة الدولية لحقوق الإنسان” السفير هيثم بو سعيد أرسل كتاباً الى قيادة الجيش أكد عدم وجود آثار تعذيب على جسد علاء عنتر، كما ذكر بو سعيد في كتابه أنّ “هناك من يسعى لاستهداف معنويات وسمعة الجيش”.
وفيما رصد متابعون وقوف الجيش تقريباً على الحياد في الأشهر الثلاثة الأولى لتحرّك 17 تشرين، ومن ثم تدرّجه في مواكبة التحرّكات وصولاً إلى استخدام القوة المفرطة في حالات الشغب الواضحة، فإنّ دوره لا يزال عرضة للانتقاد أو لتصويب الأداء، إذ تبرز أصوات تطالبه بأن يكون “الأمر له” في الشارع فعلاًً وليس فقط قولاً في ظلّ عقم الطاقم السياسي وعجزه عن إيجاد الحلول”.
ويقول متابعون في هذا السياق إنّ “الجيش، وفي ظلّ أزمة مصيرية من هذا النوع تقارب الفوضى، يجب أن يكون أكثر حزماً في حفظ الأمن وقمع المعتدين على الأملاك العامة والخاصة ومنع المخرّبين من تنفيذ مخططاتهم، من أيّ مقلب سياسي أتوا، وحماية المتظاهرين السلميين، وأن يلعب دوره على الأرض بمعزل عن أيّ حسابات سياسية”.