“منذ صدور القرار القضائي الشجاع الذي اتخذه القاضي محمد مازح حول تدخلات السفيرة الأميركية في لبنان بواسطة وسائل الإعلام، تلاحقت مواقف وتصريحات عديدة، ويهمني من موقعي الوطني والمهني، ووضعا للأمور في نصابها القانوني والإعلامي، أن أؤكد على ما يلي:
أولا، إن قرار القاضي مازح جاء في سياق الاستجابة لشكوى، ولم يتحرك من تلقاء ذاته، علما أن التحرك عفوا هو من صلاحيات استنساب القضاء الواقف، وهو حق لجميع النيابات العامة، فكيف في التعامل مع فعل موصوف يهدد السلم الأهلي ويخرق معاهدة فيينا الراعية للعلاقات الديبلوماسية بين الدول، والتي تمنع التدخل في الشؤون الداخلية للدول المضيفة من قبل أي هيئة أو شخصية تمثل دولة أجنبية.
ثانيا، إن التمادي في تدخلات السفارة الأميركية في الشؤون اللبنانية الداخلية، ناجم عن تغاضي السلطة التنفيذية ووزارة الخارجية اللبنانية، وما جرى هو تحرك القضاء لحجب الضرر الناتج عن تلك الأفعال، ليعوض خللا خطيرا وتقاعسا عن حماية السيادة الوطنية ارتكبته الحكومات المتعاقبة، وكرست به حالة من التسيب والفوضى تحول معها السفراء والقناصل إلى جهات متدخلة بما لا يعنيها، وخارج أدوارهم التمثيلية المقيدة بمعاهدة فيينا للعام 1961 التي استند إليها القرار القضائي، والقرار يحصن السيادة الوطنية والسلم الأهلي، ولا يهدد حرية الإعلام كما يريد البعض أن يصور الأمر على غير حقيقته.
ثالثا، إن الحكومات المتعاقبة مسؤولة مباشرة عن فوضى الأداء الإعلامي، بمحاباة بعض وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، وشل المجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع وترهيبه لمنعه من القيام بواجباته، وقد سبق للمجلس أن رفع خلال السنوات الماضية العديد من التقارير بهذا الشان، وألقتها الحكومات في الأرشيف بدلا من تطبيق القوانين ومحاسبة مرتكبي المخالفات، فالمؤسسات المرئية والمسموعة تتحمل وفق القانون مسؤولية مضمون كل ما تبثه وما يترتب عليه، وهي تعهدت قبل حصولها على الترخيص بعدم بث أو نقل ما يثير النعرات أو يهدد السلم الأهلي، أو يروج للعلاقة بالعدو الصهيوني، وأيا كان مصدره وبأي صفة كانت، وهو ما يلزمها به القانون 382/94 ودفتر الشروط النموذجي الصادر في المرسوم 7997/96، وقد ورد فيهما تعبير “الامتناع عن بث أو نقل” بما يعطي الأمر صفة الوجوب الذي لا يخضع لأي اجتهاد.
رابعا، لم يسبق للمجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع، أن تدخل في عمل القضاء أو نظر في أي قضية قيد النظر لدى النيابات العامة أو المحاكم، والقانون يوجب على وسائل الإعلام المرئية والمسموعة أن تمتثل للقرارات القضائية وتنفذ الأحكام، وما شاهدناه وسمعناه بخصوص القرار القضائي المشار إليه من آراء واجتهادات وردود هو هرطقة قانوية وتصميم على مخالفة القوانين النافذة، كما يمثل تدخلا في عمل القضاء ويخالف مبدأ الفصل بين السلطات”.