ليسَ هناك ما يُضعِفُ المحارب غير “الأمل”، الأمل بأن يربح ويفوز. كذلك المحبّ. أن يتمسك المحبّ بالأمل سواء لإقامة علاقة مع المحبوب المنشود أو لصيانتها مع المحبوب “المتوفّر” أو لاستئنافها مع المحبوب “المفقود”، فهذا يضعف موقعه في العلاقة. يخرج العلاقة من كونها “علاقة مع”، ويجعلها تتأرجح بين الابتزاز الذاتي وابتزاز الآخر.. بالأمل.
الأمل وطأة، وابتزاز. يجعل الأملُ الحبّ كئيباً، “خسعاً”، بائتاً بلا حرب. أن تتمسك بالأمل يعني أن تعدم أمل هذه العلاقة أو تلك المعركة، الآن أو غداً. الأمل يحرق السحر في العيون. حين تتواطأ العيون لا حاجة للأمل. وحين لا تتواطأ لا حاجة للحب من أساسه.
اليوم، هذا المتاح أمامنا في البلد: التخفّف من الأمل. من فوق كلّ ما نكابده من أحمال ومن أكلاف ومن ضغوط هناك وطأة الأمل، الاستلاب بالأمل.
والأمل رياء. “كيف نشفى من الأمل؟” يقول صوت الرياء تارة، و”لا أمل في هذه البلاد بعد الآن” يقولها تارة أخرى. والمشكلة في الحالتين في هذا الصوت، في هذا الأمل.
يمتصّ الأمل عرق كلّ منا. هل ثمة أمل بعد في البلاد، أم أن الأمل هاجر، والدعوة للُقياهِ من الآن فصاعداً في المنافي؟
والمدهش والمألوف هو تأرجح الكائنات، السميكة والهشّة على حدّ سواء، بين هذا المقلب من الابتزاز الأملي وبين ذاك. كمن يزاول طقوس الشعوذة لإغواء “ماكينة جاكبوت” بدرّ الأرباح لحضرة جنابه. الاستقواء بالحظّ في الأمل على الأمل نفسه. الأمل هو الميسر. “كيف تشفى من الأمل؟” أوقف لعب القمار يا صاح.
يبتزّ الأمل كلّ واحد منا، ويفاقم مشكلاتنا، يزيد من استعصائها. لا بل إنّ التلاعب بالأمل على هذا النحو يلعب دوراً حيوياً في انهيار سعر صرف الليرة. ابتزاز المواطن بأن عليه أن يتعامل بالليرة لا بالدولار، وأن لا يسعى لتحويل ما بالليرة إلى دولار، وأن عليه أن يقنع نفسه بتلقّي التحويل الدولاري له بالليرة وبسعر أقل من سعر الصرف. كلّ هذا فيما الليرة تتهاوى، فهذا هو الابتزاز بالأمل.
زيّن الأمل لنفسه على أنه “ثورة”، و”ثوران على الذات”، و”تكنوقراط”، و”مجتمع مدني”، و”حكومة مستقلين بصلاحيات تشريعية”، و”انتخابات مبكرة”
يضاعف من طابع الابتزاز هنا القول بأنّ الليرة تتراجع طالما كلّ واحد ماضٍ بـ”أنانيته” إلى الاستغناء عنها إلى الدولار، وأنه لو حصل واستغنى جميعنا عن الدولار في تعاملاتنا، سيخفّ الضغط وتنفرج أحوال الليرة. هذه التضامنية الابتزازية الزائفة صديقة للأمل.. عدوّة للشعب.
يلعب التلاعب بالأمل دوراً حيوياً في انهيار سعر صرف الليرة الوطنية، ولعب في الخريف الماضي، خريف الحيوية الشعبية المنتفضة، دوراً في سجن هذه الحيوية في الدوّامة. لنعدّد طائفة من الآمال الزائفة: “الأمل” في ثورة من دون نظام دستوري جديد، ومن دون إعادة توزيع للثروة، ومن دون إعادة توزّع للعنف النظامي والمجتمعي على حدّ سواء. “الأمل” في حركة ثورية من دون نظرية ثورية. “الأمل” في استعادة الأموال “المنهوبة”، أي في حلّ إداريّ تقني لمصفوفة مشكلات تتعيّن في صراع عميق متعدّد الأبعاد داخل المجتمع اللبناني بالأساس، وليس بين “الشعب كلّه” وبين خمسة أو ستة أشخاص، على ما أدمن أهل الزيف والأمل الترويج له.
زيّن الأمل لنفسه على أنه “ثورة”، و”ثوران على الذات”، و”تكنوقراط”، و”مجتمع مدني”، و”حكومة مستقلين بصلاحيات تشريعية”، و”انتخابات مبكرة” .. انتخابات مبكرة يكثف شعارها كلّ معنى الابتزاز: “كي لا تنتخبوهم هم أنفسهم من جديد”، هذا ما يردّده “النشطاء” الطلقاء، كما لو كانت كلّ الغاية من تبكير موعد الانتخابات إلقاء الحجّة على الناخبين من جديد بأنّهم “ما زالوا ينتخبون نفس الزعماء”، وبالتالي “لا أمل في الأمل”.
وحتّى صندوق النقد الدولي، ما الذي صار أمره في الجدل والانتظارات المحلية؟ من بعد الانقسام الأوّلي، “الأيديولوجي” حوله، صارت كلّ البلاد، جهراً أو ضمراً، تتعامل معه على أنه “صندوق الأمل”.. في لحظة باتت تدرك تماماً بأنّ هذا الصندوق، ومن حيث هو صندوق يتقن لعبة الأمل نفسه، سينطلق عاجلاً أم آجلاً بـ”الحكم”: بأن لا أمل… إلا إذا. وهذه لعبة الأمل الابتزازية الأبدية.
اليأس المحارب، اليأس العاشق… هو هذا الذي لا يعود به حاجة إلى الاستسلام، لأنّ الاستسلام هو شكل من أشكال استدعاء الأمل، من “تشفيق” الأمل، من استثارة الرأفة في اجتماع الظروف
القيمة الأساسية في البلد اليوم هي اليأس. اليأس يحرّر. أو أقلّه اليأس يشرح الصدر. يعطي فرصة للتفكير، لأخذ مسافة عمّا يحصل لنا. هذا في وقت لا ينفكّ الأمل يهرّج مردّداً بأنّه لا وقت للتفكير، لا وقت إلا للفعل، “على الأرض”. مهلاً أيها الأمل – الطنين. “التغيير” العتيد، كان على قاب قوسين، وستسدل الستارة عن ندائه الأول والأخير؟ فليكن. العالم لن ينتهي، والعالم لن يتوقّف عن الدوران، وعن التغيّر. ولأنّ العالم لن ينتهي، فلا حاجة للأمل الآن تحديداً… لأنّ الأمل يقتل فينا النظر والعمل. الأمل هو أوّل حمولة زائدة جديرة بالرمي من طائرتنا التي تتخبّط. وهل ما يبعث على الشؤم في طائرة غير عبارة “سترة النجاة” أصلاً التي تحكي عن أمل لا أمل فيه متى وقعت الواقعة؟!
الأمل يبتزنا اليوم كي “نعمل شيئاً ما” لإيقاف الانهيار، كما لو كان ممكناً إيقاف انهيار اقتصادي اجتماعي مالي بهذه الضخامة، بهذا التكثيف لعناصر متسبّبة له مختلفة. ومن يطالب بهذا هو كمن يطالب بالوقوع فريسة سهلة للإحباط. وما الإحباط عادة غير الجانب الأكثر صدقاً من الأمل؟
اليوم، هذا هو المتاح أمامنا، في هذا البلد: يأس نبيل، أو أمل ينعق كالبوم. يأس حرّ أو أملٌ خانق. وحده اليأس يمكن أن يسعف المحارب. ذلك النوع النادر الصعب من اليأس، المنقطع تماماً عن كلّ أمل في انعقاد الظروف على غير الشكل الذي تجتمع فيه وعليه.
لربما وجب إعمال فارق هنا بين اثنين: “اليائس”، وهو على الأرجح امرؤ ما زال يخاطب الأمل في قعر يأسه، فيخون اليأس ويعدم الأمل معاً، والثاني هو المنادي بحقّه في اليأس: المستقلّ باليأس عن أيّ انتظار لانعقاد مغاير للظروف إذا حصل كيت وكيت من الأمور.
اليأس المحارب، اليأس العاشق… هو هذا الذي لا يعود به حاجة إلى الاستسلام، لأنّ الاستسلام هو شكل من أشكال استدعاء الأمل، من “تشفيق” الأمل، من استثارة الرأفة في اجتماع الظروف.
هذا اليأس المُنقّى من بذرة الأمل فيه، لهو “أمل من نوع آخر”. فيه شروع رأساً للقفز فوق التعاسة الراهنة، ليس توهّماً بأنّها شدّة وتزول، بل تيقّناً بأن الانهيار الراهن هو من السرعة بمكان بحيث لن يبقى على حال، وإن هي سوى أشهر ونبصر المشهد بشكل آخر. وعندها، وحده اليأس الحرّ الطليق بمستطاعه أن يخرج من جعبته بقية الحياة. عندها فقط، يتحوّل “اليأس غير اليائس”، اليأس الثوريّ، إلى ما يسميه الفيلسوف أرنست بلوخ “مبدأ الرجاء”: هذه الحاجة، في عزّ الانهيار، لا إلى أمل بأن ترأف الظروف بنا، وأن تخفّف ثقلها واشتدادها علينا… وإنما إلى إبصار شبح المدينة الخيالية المثلى، في ركام الانهيارات نفسها.