بين الولايات المتحدة، تزداد سخونةً لعبةُ الوقت. ولبنان تبرَّع ليكون ساحة الحرائق التي ستشتعل في المرحلة المقبلة، من دون أن تكون له أي قدرة على الإطفاء:
1- أمنياً، لا شيء يَضْمَن نجاح المجلس الأعلى للدفاع في ضبط الأمن إذا ازداد الغليان.
2- نقدياً، مِنصَّة مصرف لبنان المركزي، بالتنسيق مع الصيارفة، لن تتكفَّل بضبط انهيار الليرة في السوق السوداء.
3- اقتصادياً واجتماعياً، ستقف الحكومة عاجزة أمام الكارثة الآتية، إلى الخبز والمحروقات والكهرباء وسائر السلع الأساسية.
وفي الموازاة، تسارعت 3 سقطات فادحة داخل فريق السلطة، خلال أيام قليلة:
– السقطة الأولى هي أنّ بيفاني، في استقالته، توجَّه بالنقد خصوصاً إلى فريق السلطة وأظهره عاجزاً وخاضعاً للقوى السياسية التقليدية التي ترعى الفساد.
– السقطة الثانية كانت بيان “لقاء بعبدا”، الذي شكّل مضبطة اتهام للسلطة والطبقة التي تديرها، إذ أثبت للجهات الدولية أنّ من المستحيل إنقاذ لبنان في ظلّ هذه السلطة. وتالياً، هو منَحَ هذه الجهات مزيداً من المبرِّرات للمضيّ في التشدُّد والعقوبات.
– السقطة الثالثة هي افتعال توتر مجاني مع الولايات المتحدة، من خلال الحُكْمِ القضائي على سفيرتها دوروثي شيا، في لحظة الكفاح المرير لفكّ الحصار الأميركي، سواء في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، أو في مغازلة الخليجيين أو مناجاة فرنسا لتحريك مساعدات «سيدر».
الواضح أنّ الردّ جاء سريعاً وصاعقاً، ومن كل الجهات: الاضطرار إلى الاعتذار رسمياً من السفيرة، وتأكيد الخليجيين أن لا مساعدات في الأفق، والتبلّغ من الفرنسيين أنّ مساعدات “سيدر” تبقى رهناً بالإصلاح.
هذا المناخ يؤكّد جدّية الكلام الأخير لوزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو: “لا مساعدات للبنان من أي جهة في العالم، إلّا بالإصلاحات ورفع يد “حزب الله” عن الدولة. أما إذا التزم لبنان ذلك، فالعالم كلُّه سيسارع إلى المساعدة”.
إذاً، على لبنان أن يختار. ومشكلة قوى السلطة أنّها عاجزة عن معارضة الموقف الأميركي، لكنها، في المقابل، تحاذر الموافقة على الإصلاحات، فذلك يطيح مكاسبها ويرفع نفوذ «الحزب» عن الدولة. ومعنى ذلك سقوط منظومة السلطة الحالية بكاملها.
لذلك، تواصل قوى السلطة إضاعة الوقت، لعلَّ معطيات جديدة تطرأ وتسمح لها بالتنصُّل من أي التزام. لكن للوقت ثمناً باهظاً. ويبدو جدّياً جداً تحذير الرئيس ميشال عون من انزلاق أمني خطِر، نتيجة الانهيارات الاقتصادية والمالية والنقدية وتفاقم الاحتقان الاجتماعي.
إذا لم تنجح الصدمات الأخيرة في إيقاظ قوى السلطة من حال الضياع، فإنّ الشلل الاقتصادي سيتعمّق، والمأزق المالي والمصرفي سيشتدّ، والانهيار في سعر الليرة سيتسارع ليبلغ حدوداً يصعب تقديرها، وسط عجز كامل عن المعالجة وفوضى وتبادلٍ عبثي للاتهامات بين مجموعة من المسؤولين المُربَكين والفاشلين.
ويخشى المتابعون أن يكون سعر الدولار وفقدان المواد الأساسية هما عنصرَ التفجير الأساسي. وفي ظلّ بطالة خانقة، سيعني تحليق سعر الدولار تبخُّر ما تبقّى من رواتب اللبنانيين في القطاعين العام والخاص، بمن فيهم العسكريون والأمنيون.
اليوم، على مستوى يفوق الـ8000 ليرة للدولار، أصبحت رواتب الكثيرين في حدود الـ100 دولار أو أقلّ، أو 200 دولار أو أكثر بقليل. وهذا يعني أنّ غالبية اللبنانيين باتوا يطمحون إلى الحصول على الغذاء والدواء، لا أكثر. وأي إنفاق آخر يطرأ، خارج ذلك، سيكون متعذراً، ولو كان حيوياً كالطبابة والاستشفاء والتعليم وصيانة السيارة أو المنزل.
ووفق الصورة المرعبة التي يجري الهمس بها في عدد من الأوساط الاقتصادية والمالية، يتردَّد أنّ الدولار سيتصاعد نحو سقوفٍ عالية جداً، بل خيالية. وستصبح رواتب غالبية اللبنانيين، لا في حدود بضع مئات من الدولارات بل ربما بضع عشرات. ويوحي مسار الأزمة النقدية وطريقة تعاطي السلطة، بأنّ بلوغ هذه الكارثة لم يعد مستبعداً.
ماذا يعني هذا التبخُّر شبه التام لمداخيل اللبنانيين؟
الخبراء يقولون: إنّها الفوضى. والأرجح أنّ الناس الجائعين والكافرين بكل شيء سينزلون إلى الشوارع بالآلاف، ولن يستطيع أحد توقّع السيناريوهات المحتملة.
في المقابل، ستُنزِل قوى السلطة أزلامها ومحاسيبها لخرق صفوف الجائعين، كما فعلت قبل أسابيع. وستعتمد أساليب القمع من جهة، والاستيعاب من جهة، والتهديد بالفتنة الطائفية أو المذهبية من جهة أخرى.
سيكون هناك جائعون من هنا في مواجهةِ جائعين من هناك، يتشابكون في الشارع أمام أعيُن جائعين آخرين هم رجال العسكر والأمن. وستسود الفوضى، وسيكون أهل السلطة في ذروة الإرباك والتخبّط! سيصبح التهديد الدولي أعنف: واشنطن تُصَعِّد العقوبات، باريس والعرب لا يبالون إلّا ببضع “كراتين إعاشة” ربما، صندوق النقد الدولي يلوِّح بسحب يده من المفاوضات، ودعاوى قضائية قد يرفعها دائنو سندات “اليوروبوند” أو سواهم كثيرون.