واضح أنّ عنوان المرحلة لدى جماعة السلطة هو “الإرباك”. فهؤلاء كانوا دائماً يعتقدون أنّ القوى الدولية والعربية، التي لطالما أنعشت البلد، بفسادِه وفسادِهم، ستسمح لهم بمزيد من الدلال، وستغطي استمرارهم في نهب البلد ومقدراته. ولكن، في الحقيقة، باتت الحسابات مختلفة منذ 3 سنوات.
كانت الاستقالة الشهيرة التي تقدَّم بها الرئيس سعد الحريري في الرياض، في 4 تشرين الثاني 2017، رسالة شديدة الوضوح إلى مَن يريد أن يرى: هناك مرحلة انتهت وأخرى آتية، مهما كانت الأكلاف قاسية. والأحرى أن يُدرك اللبنانيون ذلك ويمرِّروا هذه المرحلة بأقل الأضرار.
على مدى 3 سنوات لم يتوقف طاقم السلطة عن المناورة. وكان مؤتمر “سيدر” محاولة فرنسية – خليجية لإعطائه فرصة إنقاذٍ جديدة قبل الكارثة. لكن “الدلع” السمِج لم يتوقف. وحتى عندما انفجر الشارع في 17 تشرين الأول الفائت، بقي الطاقم يحاول كسب الوقت لظنِّه أنّ شيئاً ما يمكن أن يتغيَّر ويسمح له بالتمادي.
تمّ ابتكار تركيبةٍ يمثلها الدكتور حسّان دياب وشركاه، لتكون المتراس الذي يتلقّى الطلقات ويفتدي طاقم السلطة الحقيقي. وهذا ما حصل. ولذلك، بعض الوجوه الوزارية التي لا غبار عليها في الحياة الشخصية والحياة العامة، والتي حاولت القيام بشيءٍ ما في هذه التركيبة، تشعر اليوم بالعذاب ومرارة الندم لأنّها حاولت “تجربة المجرّب”.
ولعلّ النموذج الأسوأ كان النقاش الأخير في مجلس الوزراء، حول التدقيق المالي. فقد كان هناك نوعان مطلوبان من التدقيق: محاسَبي تتولّاه الشركتان KPMG وOliver Wyman، وجنائي تتولّاه Kroll، التي تملكها شركة Duff & Phelps.
في اللحظة التي ينتظر فيها الجميع رمي حجرٍ على الأقل في مستنقع الفساد الراكد، ولدت قصة لم يكن أحد يتوقعها. فالتدقيق أُلغي بسبب الاعتراض على Kroll، بناء على معلومات بدأ تسريبها قبل أيام، حول وجود “يهود” أو “إسرائيليين” في مواقع الشركة الأساسية، ما يثير المخاوف من قيام هؤلاء باستغلال مضمون التدقيق، بالتعاون مع إسرائيل، لغايات مشبوهة.
ولكن، من حيث المبدأ، وفي معزل عن مدى صحّة المعلومات، يطرح حقوقيون أسئلة حول دقّة الكلام الذي جرى تداوله في الإعلام، والذي تَضمَّن عبارات من نوع « وجود مسؤولين يهود» في مواقع القرار في الشركة. فإذا كان التداول بهذه العبارة قد تمّ فعلاً في الجلسة، فهو ينطوي على إساءة، لأنّ اليهود هم أبناء طائفةٍ يَعترف بها القانون اللبناني، وليس منطقياً تخوين أي شخص من منطلق انتمائه الديني أو الطائفي.
عدا عن ذلك، إنّ معظم الشركات المالية والمصارف العالمية التي تعاطت معها الدولة منذ عشرات السنين، كان هناك يهود في موقع المسؤوليات فيها. وأما إذا كان المقصود وجود «إسرائيليين» أو أشخاص معروفين بتعاطيهم مع إسرائيل ويمكن أن ينقلوا إليها المعلومات، فهنا تصبح المسألة جديرة بالتفكير، ليس فقط بالنسبة إلى Kroll، بل كل الشركات التي تعاطت معها الدولة اللبنانية، وتتعاطى حالياً.
ويطرح الكثير من المتابعين أسئلة حول الهدف الحقيقي من استثارة هذه المسألة، خصوصاً أنّ Kroll استعان بها لبنان سابقاً. فهل هناك فعلاً محاولة لتطيير التدقيق الجنائي، باستخدام ذرائع معينة؟ ولماذا ظهر «البُعبُع» الإسرائيلي في مسألة التدقيق الجنائي حصراً، وهل تنبّه إليه طاقم السلطة في الشركات والمؤسسات والأماكن الأخرى الحسّاسة، أم كان المهم تعطيل التدقيق الجنائي؟