تخطّت أزمة اللبنانيين في مضمونها، العناوين الرئيسة لأزمتهم التاريخية بالإفلاس وقلّة الحيلة. لم تعد قضيتهم تقتصر على المعاناة من انهيار الليرة والتلاعب بسعر صرف الدولار، ولا على الارتفاع الجنوني لأسعار السلع، ولا على حرمان موائدهم من اللحوم والدواجن، ولا على ابتزازهم بالمحروقات والخبز، ولا على بطالتهم وخسارة قيمة رواتبهم واستيلاء المصارف على ودائعهم. إنّها قضيّة قهرٍ يوميٍ متواصل، تتغذى فيها المعاناة والهموم من نفسها لدرجة التضخم. وأقسى أشكال هذا القهر تتجلى لدى سؤال أيّ إنسان يائسٍ عن “سبب وجوده”. جولة واحدة في الشوارع والأحياء والأسواق الشعبية، تكون كفيلة لنسمع سؤالًا استنكاريًا واحدًا على ألسنة المئات لدى الاستفسار عن أحوالهم: “نحن لشو عايشين أصلًا؟”.
التيه والضياع
سؤال “لشو عايشين”، هو بديل العاجزين عن فعلي “الموت” و”الحياة” معًا. هكذا أضحت يوميات آلاف اللبنانيين، كأنّها شكل من أشكال التيْه والضياع والبحث عن سببٍ واحدٍ للوجود، داخل بلد تحكمه زُمرة من الفاسدين والمنافقين ومعدومي الضمير. يُدرك اللبنانيون أنّ موعد خلاصهم من هذا النفق المظلم لم يحن بعد، وأنّ الحلول الجذرية لأزمتهم لم تلح بالأفق لا داخلًا ولا خارجًا. وهم يدركون أيضًا أنّ وطأة هذه الأزمات ستشتدّ في المرحلة المقبلة، ما دامت الحلول معدومة، أي أنّ “القهر” اليومي مُقبل على التضاعف. وإلى حين خلاصهم المؤجل، يقضي اللبنانيون محاولات التعايش مع شتى أشكال عجزهم.
ترتفع نسبة حالات الانتحار في لبنان، ليسقط معها الرهان على “ثورة الجياع” وكلّ الآمال التي علقت على ثورة 17 تشرين الأول 2019. الجائع لا يملك ترف الثورة: خلاصة مؤلمة تثبت صحتها في لبنان. والجائعون في لبنان، لا يعانون من نقصٍ في الغذاء أو حاجة للطعام فحسب (حتى اللحظة). إنّه جوع الإحساس بالكرامة والأمن والأمان والاستقرار والحرية وعدم العيش بمهانة ومذلة.
في طرابلس شمالًا، والتي صار أكثر من نصف سكانها يعيشون تحت خطّ الفقر المدقع، يجسد الآلاف من أهالي المدينة في يومياتهم مفهوم “العيْش من قلّة الموت”، أو بالأحرى العجز عن الانتحار.
وهنا، أسرد مشهدين صادفتهما مؤخرًا في شوارع طرابلس، وهما نماذج من آلاف مشاهد مماثلة في المدينة وخارجها.
المشهد الأول
قبل أسبوع، كنت أمشي عند البولفار المحاذي لساحة النور. أقف قليلًا لانتقل من تقاطع رصيفٍ نحو آخر مقابل له. في هذه اللحظة، يهرع نحوي رجل خمسيني ينهار من البكاء، لا أعرفه ولا يعرفني. كان وجهه محمرًا لدرجة الاحتراق من حدّة أشعة الشمس، قميصه الرطب مصبوغ بآثار التعرّق، وعيناه تنزفان الدموع شلالًا. قال لي مهلوعًا: “يا أختي بشرفك ساعديني ودليني هون على شي بناية عندها غرفة ناطور فاضية، أو شي مخبأ، أو شي مخزن، أو أي شي أقعد فيه مع ولادي ومرتي لفترة قبل ما أقدر أمّن كلفة الأجار”.
كان يحكي كمهلوسٍ يرى في حلمه كابوسًا. طلبت منه أن يهدأ ويشرح لي حتى أفهم. يستغفر الله ويتبعها بشتيمة للبلد وزعمائه. يتنهد، ويبدأ حديثه كمن يقدّم صكّ براءته: “والله أنا لبناني مني أزعر ولا شحاد ولا قاطع طريق ولا ابن حرام ولا خصني بحدا”، ثم قال: “فقدتُ عملي قبل شهرين، بعد أن طردني صاحب المحل من دون أي تعويض بسبب خسارته وتراجع كبير في مبيعاته. كنت أعيش يومًا بيوم مقابل 20 ألف ليرة أدخر منها أجار منزلي في البداوي، ولم أجد أي أحد يشغلني. الشهر الماضي وجه لي صاحب المنزل إنذارًا لأدفع الديون المترتبة عليّ وإلا يقوم بطردي في بداية تموز، وأنا لم استطع تأمين له المبلغ له، وأفتش عن أيّ مأوى لأهرب منه”.
لم يحتمل هذا الرجل صمتي للحظات بعد سماعه، فيعود لغضبه وبكائه بالقول صارخًا: “طب شو بعمل يا الله بحالي وبولادي، بقتلهم وبقتل حالي لارتاح يعني!”، ثم يهرع تائهًا باتجاهٍ آخر وهو يلتفت يمينًا وشمالًا، يكمل الحديث مع نفسه، ويفتش عن أيّ “مجهول” آخر يقدم له المساعدة.
المشهد الثاني
نهار الخميس 2 تموز، كنت أركن سيارتي في إحدى شوارع طرابلس. كان يقف على الرصيف رجل ثلاثيني يبتسم لي، ويحاول بإشارات يديه أن يساعدني في ركن السيارة من دون أن أطلب منه ذلك. لم أعطه اهتمامًا، وظننته كمعظهم الرجال الذين يندفعون نحو النساء عند ركن سياراتهن كأنهن عاجزات عن هذا الفعْل. لدى نزولي من السيارة، يتجه نحوي بهدوءٍ ويظل مبتسمًا رغم ملامح انكساره ليقول: “قلت بساعدك بركي بتساعدني”، ثم يسرد بعد سؤالي عن حاجته: “كان لدي عربة أبيع عليها حديد مستعمل وأغراض عتيقة أقوم بتجميعها يوميًا من الحاويات، لكن هذه العربة سُرقت مني قبل فترة، ولا أملك المال لشراء عربة أخرى. ويوميًا صرت أنزل إلى الشارع لأفتش عن أيّ عمل ولم يقبل أحد أن يشغلني، فصرت أسأل الناس لمساعدتي”. يتابع بالسؤال: “هل تعرفين أحد يحتاج لعامل؟ أعمل بأيّ شيء يخطر في بالك، الشغل ليس عيبًا، عندي طفلان يحتاجان للحليب والحفاضات وصرت عاجزًا عن تأمين كلفتها الباهظة، وأستدين لتأمين إيجار منزلي في القبة ونشتهي لقمة الأكل”. يخبرني أنه يشعر بالعار، ثمّ يطئ رأسه ليتماسك. أعده أن أسأل له عن عمل رغم صعوبة إيجاد أيّ فرصة في طرابلس في هذه المرحلة. أطلب منه رقم هاتفه، فيرد ساخرًا: “عم قلك ما معي آكول ولا معي جيب حق حليب وحفاضات لولادي بتسأليني عن رقمي؟ أنا ما معي حتى تليفون”.
هذا لبنان
أحكي لعددٍ من الأصدقاء في طرابلس عن هذين الرجلين، فيسردون لي قصصًا مشابهة أصبحوا يصادفوها يوميًا في شوارع المدينة، وأمام متاجرها الغذائية. فهل هذا نوع جديدٍ من أنواع “التسوّل”؟
بالطبع لا. هذا هو لبنان 2020، الذي جعلت فيه السلطة حياة أبنائها مأساةً وكابوسًا، “يعيشون من قلة من الموت”، يهربون من الانتحار، أو يلجأون إليه لدى بلوغهم ذروة اليأس في يوميات قهرهم المتواصل.