كتب جورج شاهين في “الجمهورية”: كانت الساعات المعدودة التي أمضاها قائد القيادة الوسطى في الجيش الأميركي الجنرال كينيت ماكينزي كافية لتستعر المواجهة الأميركية – الإيرانية الى الذروة. إذ تلاحقت المواقف التي رافقتها من الداخل والخارج، وأحاطت بمفاصل الأزمتين الداخلية والإقليمية. كما أحيت نقاشاً حول محطات أميركية – لبنانية وأحداث قديمة. وعليه، ما الذي أسفرت عنه الزيارة؟ وهل ستكون الأولى والأخيرة قبل الحرب؟
لم تكن زيارة الجنرال ماكينزي عادية ولا روتينية كتلك التي سبقه إليها أسلافه سابقاً. فلبنان يتعاطى مع القيادة الأميركية الوسطى في الجيش الأميركي مباشرة منذ ولادة الحلف الدولي الذي نشأ في 11 ايلول من العام 2014 عقب “إعلان جدة” الذي انتظمت تحت لوائه 41 دولة في العالم، والتي شكّلت حلفاً دولياً لمواجهة الإرهاب بعد شهرين على ولادة “الدولة الاسلامية في العراق والشام” (داعش) في 29 حزيران 2014 من الموصل العراقية قبل 5 ايام على إعلان “ابو بكر البغدادي” (4 تموز 2014) عن قيام “دولة الخلافة الاسلامية”، والتي توسّعت لاحقاً في اتجاه الجزيرة العربية ومحافظتي بغداد وصلاح الدين امتداداً الى الشمال السوري، الى أن هدّدت مع حلفائها في منتصف ايلول من العام 2016 الساحل السوري بعد القضاء على تنظيم “النصرة”. وهي المعركة الفاصلة التي استجرت التدخّل الروسي المباشر في الأزمة السورية بكل عتاده العسكري فجر 1 تشرين الاول من العام عينه.
منذ تلك الفترة، كان قائد المنطقة الوسطى الأميركية في الجيش الاميركي الجنرال جوزف فوتيل يزور لبنان من دون ان يدري به أحد قبل مغادرته الاراضي اللبنانية، إن أُعلِن عن زيارة من هذا النوع. وفي تلك المرحلة كانت فيها هذه القيادة على تنسيق كامل مع الجيش اللبناني في مواجهة الإرهاب وعلى مراحل قادت الى القضاء على مجموعات منه في معركة “فجر الجرود” التي أطلقها قائد الجيش العماد جوزف عون في 19 آب من العام 2017.
كان لا بد من استعراض تلك المرحلة للتأكيد انّ زيارة ماكينزي للبنان استثنائية بكل ما في الكلمة من معنى. فهي في توقيتها قبل الشكل والمضمون جاءت في مرحلة حَرجة تزامنت ومواجهة اميركية – إيرانية قاسية بلغت الساحة اللبنانية بإصدار قاضي الامور المستعجلة في صور محمد مازح قراراً يمنع وسائل الاعلام اللبنانية من استضافة السفيرة الاميركية دوروثي شيا واستصراحها، وهو ما قاد الى استقالته من السلك إثر إحالته الى هيئة التفتيش القضائي. أضِف الى ذلك فقد بلغت لغة التحدي بين طهران وواشنطن الذروة على وقع تجديد العقوبات عليها تزامناً مع دخول “قانون قيصر” للعقوبات على النظام السوري مرحلة التطبيق في 17 حزيران 2020 الماضي.
وعليه، فقد اكتسبت الزيارة أهمية خاصة لِما ترافق مع موعدها من حملات إعلامية متبادلة من اجل استنفار العصبيات الداخلية على وقع مجموعة من التصريحات التي أدلت بها السفيرة الأميركية وكل من وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو ونائب مساعده المكلّف بمواكبة تطبيق العقوبات على سوريا وفق “قانون قيصر”، جوول ريبورن، الذي تَقصّد إطلاقها بعد اجتماعات مع خبراء العقوبات، والتي تزامنت مع إطلالة جديدة للامين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله عشيّة وصوله الى بيروت.
وليس أدلّ الى حجم المواجهة ان قرّر “حزب الله” الاعتراض شعبياً على زيارة ماكينزي في حرم مطار بيروت، بحجّة تعطيل احتفال ينوي الضيف الاميركي المشاركة فيه إحياء للذكرى السابعة والثلاثين لحادثة تفجير مقر “المارينز” في تشرين الاول عام 1983 قرب المطار، قبل ثلاثة اشهر تقريباً من موعدها السنوي وليس في 8 تموز الجاري تاريخ حصول الزيارة في عملية انتحارية أعقبت عملية مماثلة قبل فترة قصيرة استهدفت مبنى السفارة الأميركية في عين المريسة في بيروت. ورغم ذلك فقد خرج موكب ماكينزي من المطار برّاً وخرقَ أحياء الضاحية الجنوبية من بيروت في اتجاه قصر بعبدا، ليدشّن بلقائه رئيس الجمهورية اولى اللقاءات المحدودة له خلال الساعات التسع التي أمضاها فيها.
وبمعزل عن هذه الإحاطة بالزيارة في توقيتها وشكلها، بقيت الإشارة ضرورية الى ما جاءت به من رسائل قبل معرفة ما ستنتهي إليه في انتظار ما ستكشفه التطورات المقبلة. ولذلك، قالت مصادر عليمة انّ ماكينزي لمّح الى كثير ممّا أراده من زيارته وما تنوي بلاده القيام به. وإن بقيت التوجهات الاستراتيجية الأميركية السياسية والامنية في كواليس اللقاءات، فقد حرصَ الجانب الأميركي على إبراز مهمته العسكرية لتأكيد الاستمرار في تنفيذ قرار استراتيجي كبير بدعم بلاده للجيش بما تطلبه قيادته من أسلحة وذخائر وبرامج تدريب وتأهيل، على رغم من تقليص وزارة الدفاع الأميركية برامج مساعداتها الخارجية لكثير من الدول قبل “جائحة كورونا” وعملية التقشّف التي سبقتها وتلتها.
وعليه، فإنّ الكواليس الديبلوماسية تحفل بالرسائل السياسية للزيارة، وتتحدث عن تزخيم العقوبات على سوريا وإيران وأذرعتها في المنطقة، وانّ الآتي منها سيكون اصعب بكثير. فالبعض من القرارات التنفيذية المتوقّع صدورها عن وزارة الخزانة الأميركية بات على قاب قوسين من أن تسمّي المشمولين بها من قيادات لبنانية وسورية وايرانية قد تتجاوز المألوف ممّا عرف عنها ان تجاوزت المكوّنات التجارية والمالية الى مستوى الأشخاص قريباً.
والى كل هذه العناصر التي بدأت تتسرّب، فإنّ أبرز ما لفت اليه ماكينزي يَكمن في انّ واشنطن قد فقدت كثيراً من وسائل الضغط التي استخدمتها لِلَجم إسرائيل، سواء في الداخل الفلسطيني في ما خَص الحصار على غزة وعمليات الضَم المؤجلة الى حين، لبعض من أجزاء “الضفة الغربية” و”غور الأردن”، وبلغت احتمال عدم قدرتها على لَجم أيّ اعتداء اسرائيلي على لبنان اذا بقيت سياسات «حزب الله» على ما هي عليه من تعزيز قدراته الصاروخية وتشكيلها امتداداً جغرافياً بعيد المدى للنفوذ الإيراني في لبنان وعلى الحدود الشمالية للاراضي الفلسطينية المحتلة.
وفي ما تسرّب، انّ ما تشهده ايران من عمليات استهدفت مواقعها النووية والكيماوية وتحميل اسرائيل مسؤوليتها باستخدامها أسلحتها التقليدية وأخرى من قوتها السيبرانية، قد يجرّ الى رد إيراني عبر جنوب لبنان بعد استحالة استخدامها الأراضي السورية، ليس لسبب سوى لوجود الوصاية الروسية عليها. فما جرى في المنشآت الايرانية النووية في موقعَي “ناتنز” و”بارشن” وأحد المعامل الكيماوية بعد فترة على استهداف إحدى موانئها على المحيط الهندي جنوباً، قد لا يمرّ مرور الكرام بالنسبة الى القيادة الإيرانية، وهو أمر اذا حصل قد لا يكون سهلاً او يمكن القبول به.
وفي النتيجة ولمَن يرغب بالمزيد من التفاصيل، عليه رصد حراك السفيرة الاميركية التي زارت رئيسي مجلس النواب نبيه بري والحكومة حسان دياب غداة زيارة ماكينزي للحديث في شكلٍ أوضح عن أهداف الحراك الاميركي، وهو ما قد يُلقي الضوء أكثر على حصيلة زيارة الجنرال الضيف وما يدبّر للمنطقة في الايام والاسابيع المقبلة، لعلها تحسم كثيراً من التوقعات لِتحوّلها وقائع.