عندما طُرح إسم محمد بعاصيري كبديل محتمل لحسّان دياب (الوزير السابق جبران باسيل هو من طرح إسم بعاصيري) توجهت الأنظار إلى مصطفى الكاظمي، رئيس الحكومة العراقية، إذ أن هوى الرجلين أميركي بإمتياز، لكن تمسك “حزب الله” بحكومة دياب أعاد عقارب الساعة إلى ما قبل هذا الطرح فتغيرّ المشهد بعدما طوي الحديث عن إحتمال إجراء أي تبديل حكومي في الوقت الراهن، وأعطيت الحكومة جرعة دعم إضافية، وذلك خوفًا من الفراغ، الذي لن يكون في مصلحة أحد، وفق ما يقوله الحزب، مع تشديد التركيز على ضروة التغيير في الأداء الحكومي، بعدما ساد إنطباع من داخل “أهل البيت” بأن إنتاجية الحكومة يلامس حدود الصفر.
وعلى رغم التقارب التشبيهي بين الوضعين اللبناني والعراقي، فإن ثمة معطيات تجعل من نمطية التجربتين اللبنانية والعراقية مختلفتين في الجوهر، مع أن ما شهده العراق في الأشھر الماضیة من تطورات يشبه الى حد بعید تلك التطورات التي شھدھا لبنان: إنتفاضة شعبیة عارمة أسقطت الحكومة (حكومة عادل عبد المھدي) وطالبت بمكافحة الفساد ودفعت في اتجاه انتخابات نیابیة مبكرة. وھذه العناوین الجامعة خرقتھا أصوات مطالبة بضبط السلاح والحد من النفوذ الإیراني في العراق، والذي تعاظم بشكل سریع وقوي منذ العام ٢٠١٤ عندما ظھر تنظیم “داعش” فجأة وھدد العاصمة بغداد واقتطع مساحات جغرافیة واسعة قاعدتھا الموصل. ھذا الخطر الداھم دفع إیران الى مساعدة القوى والفصائل الشیعیة وتنظیمھا وتدریبھا ضمن إطار “الحشد الشعبي”، وإذ ذاك بدأ النفوذ الإیراني یتسع ويتحّول من “سیاسي شعبي أمني اقتصادي” الى نفوذ عسكري وعملاني ویأخذ شكل التغلغل في الدولة والتأثیر على قرارھا والتحكم بمفاصلھا. وفي الواقع، كانت إیران تتقدم في ظل الفراغ الأمیركي الذي نجم عن قرار الإنسحاب والإنكفاء المتخذ من الرئیس السابق باراك أوباما وقد عمل الرئیس دونالد ترامب على تجمید تنفیذه، في وقت كانت العلاقة الأمیركیة ـ الإیرانیة على أرض العراق، وبعد تقاطع مرحلي إیجابي ضد “داعش”، تشھد إرتفاعا في حدة التوتر وانتقالا من حال المھادنة الى حال المواجھة التي بلغت ذروتھا مع إغتیال القائد الإیراني اللواء قاسم سلیماني. ولكن على رغم فداحة وخطورة ھذا الحدث، لم تتطور المواجھة الى “حرب” وإنما توقفت أولا عند حدود رد فعل إیراني محدد ومدروس تفهمّته واشطن ومررته، وتوقفت ثانیا عند تطور حكومي رعته واشنطن وتمثّل في تشكیل حكومة جدیدة برئاسة الكاظمي بعد محاولات عدة غیر ناجحة قامت بھا طھران لتشكیل حكومة موالیة بالكامل رئیسا وتركیبة وبرنامجا. والمفاجأة كانت أن إیران قبلت، ولو على مضض، بحكومة مع الأمیركیین في العراق، وأعتبر ذلك بمثابة عودة إيران الى سیاسة المساكنة في سیاق التكتیك الإیراني لكسب الوقت واستیعاب الضغوط والوصول الى محطة الانتخابات الرئاسیة الأمیركیة.
وحيال هذه التطورات على الساحة العراقية طرح سؤال في لبنان ولدى أوساط متتبعة لمسار التطورات في العراق الذي أصبح خط التماس المباشر بین إیران والولایات المتحدة: ھل یمكن للسیناریو العراقي أن یتكرر في لبنان، وھل نرى نموذجا حكومیا في بیروت مماثلا لنموذج حكومة الكاظمي في بغداد؟!
ھذا السؤال یطرح بقوة في ضوء تطورین: الأول، یتمثل في ترنح حكومة حسان دیاب، على رغم الأمصال التي تعطى لها، بعدما كادت تتحوّل إلى حكومة تصریف أعمال وهي مستمرة بقوة الأمر الواقع، بمعنى أنھا مستمرة لأن لا بدیل جاھزا لھا.
أمّا التطور الثاني فتمثل في حركة الإتصالات غیر المباشرة عبر أقنیة دبلوماسیة ومخابراتیة بین إیران والولایات المتحدة، وتشي بأن الدولتین غادرتا إحتمالات الحرب وانتقلتا الى حلبة المفاوضات، والمسألة لم تعد إلا مسألة توقیت لأن ھناك في طھران من یرید للمفاوضات أن تنطلق بعد الانتخابات الأمیركیة وبعد الوقوف على مصیر ترامب، ومن ینتظر ویأمل بسقوطه، وھناك من يفضّل أن یفتح باب التفاوض من الآن وقبل الانتخابات تحسبا لاحتمال فوز ترامب الذي ما زال واردا وبقوة، وحتى لا یفاوض بعد فوزه من موقع أقوى.
الجواب عن هذا التساؤل أتى سريعًا من “حزب الله” أن لا تغييرًا حكوميًا في الوقت الراهن، وهو الذي دفع في إتجاه إقدام الحكومة على إتخاذ قرارات تحاكي ما يطالب به المجتمع الدولي من إصلاحات، وكان أولها تعيين مجلس إدارة لشركة كهرباء لبنان، على رغم ما في هذه التعيينات من محاصصة مكشوفة تجعل هذا المجلس أداة طيّعة في أيدي السياسيين.
فـ”حزب الله” في لبنان يعتبر نفسه من ضمن اللعبة فيما الإيراني في العراق هو من خارج اللعبة الداخلية، وهو يحاول إستخدام الساحة العراقية لتمرير الرسائل السياسية إلى الأميركيين في لعبة “العض على الأصابع”.