قبل أن يعلن عن زيارته لبيروت الغارقة في العتمة والفساد، بمعية حكومة فاشلة حدّ اليأس، قصد وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان أن يضع لزيارته إطارًا واقعيًّا من خلال كلمته أمام مجلس الشيوخ، قاطعًا الطريق على آمال مغلوطة في بيروت بأن فرنسا قد تساعد لبنان بمعزل عن تنفيذ الإصلاحات المطلوبة. فالكرة كانت ولا تزال في ملعب اللبنانيين، والإصلاحات وفي مقدمها قطاع الكهرباء، هي السبيل الوحيد أمامكم للحصول على مساعدات دولية من خلال صندوق النقد الدولي أو من خلال مؤتمر “سيدر”.
كلمة لورديان العلنية أمام مجلس الشيوخ، سبقتها رسائل باريسية قاسية وصريحة للحكومة اللبنانية عبر قنواتها الدبلوماسية، عبّرت خلالها فرنسا عن بالغ استيائها من المماطلة الحكومية في تنفيذ الإصلاحات التي إلتزم رئيس الحكومة حسان دياب بتنفيذها خلال مئة يوم. انقضت المهلة ولم تنفّذ الحكومة تعهداتها، فيما البلد يسارع الخطى نحو الإنهيار. انطلاقًا من هنا لا يحمل الوزير الفرنسي مبادرة محدّدة ليعرضها على المسؤولين في لبنان، بل سيقرع في بيروت على مسامع أهل الحل والربط ناقوس الخطر قبل تداعي الهيكل، علّهم يفعلون شيئًا لينقذوا شعبهم من الجوع والبطالة والفوضى، خصوصًا انّ الحلّ كان ولا يزال في أيديهم، من خلال التخلّي عن مصالحهم الضيقة، وتعليق نهجهم الفاسد، والقيام بإصلاحات من شأنها أن تعود بالفائدة على خزينة الدولة بدل خزائنهم الخاصة. لاسيّما في ملف الكهرباء الذي توليه الجهات المانحة أهمية كبيرة، كون خسائره تشكّل ما يوازي نصف قيمة الدين العام. بالتوازي مع تعيين الهيئات الناظمة لقطاعي الكهرباء والإتصالات، ووقف التهريب عبر الحدود، ومعالجة انتفاخ القطاع العام وإصلاحات أخرى.
اللافت أنّ زيارة رئيس الدبلوماسية الفرنسية التي أرجئت مرّات عدّة، لتسجيل موقف فرنسي ممتعض من أداء السلطة السياسية، بقصد أن يشكّل ذلك ضغطًا على الحكومة لتعدّل في أدائها باتجاه تنفيذ الإصلاحات، هذه الزيارة تحصل اليوم على وقع حملة تقودها البطريركية المارونية في لبنان، لإيقاف جنوح حزب الله نحو الزجّ بالنفس اللبنانية في الصراعات الإقليمية خدمةً لمحاور إقليمية، برفع سيّدها البطريرك مار بشارة بطرس الراعي راية الحياد، وإلتزامه التمسّك بدعوته رغم الضغوط. هذا التزامن بين الزيارة ونداء بكركي ليس وليد الصدفة، لا بل يعتبر سببًا رئيسًا للزيارة وفق رؤية الدكتور محي الدين الشحيمي، وهو أستاذ في كلية باريس للأعمال والدراسات العليا “بحيث أرادت فرنسا أن تتلقّف هذا النداء التاريخي والمفصلي من قبل البطريركية المارونية في لبنان، في تلاق واضح بين موقفها وموقف الفاتيكان، الذي يتبنّى نداء بكركي، وقد حصلت محادثات بينهما في هذا الصدد، خصوصًا وأنّ الفاتيكان متمسّكة بلبنان وطن الرسالة والتعايش والتنوع”.
من هنا يرى الشحيمي في اتصال مع “لبنان 24” أنّ الزيارة التي تحصل على وقع أجراس بكركي، تكتسب ابعادًا باتجاه دعم فرنسي للبنان، كدولة مستقرّة حرّة مستقلة، تشكّل عامل استقرار داخلي وإقليمي وليس العكس، من خلال الإلتزام بالحياد المنصوص عنه في الميثاق الوطني، وعدم الدخول في الصراعات والتجاذبات الإقليميّة، وتأكيد احترام لبنان للقرارات الدولية.
وبالتالي اعتبر الشحيمي أنّ الزيارة ليست لدعم الحكومة اللبنانية بعدما بلغ الإحباط الفرنسي مرحلة اليأس، وليست من أجل متابعة سير المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، إنّما تحصل على خلفية القلق الفرنسي من الإنقلاب على الصيغة اللبنانية، لذلك قررت فرنسا التدخل لحماية هذه الصيغة، عبر تبنّي دعوة بكركي للنأي بلبنان عن الصراعات والإصطفافات الإقليمية.
لطالما تمايزت فرنسا عن باقي مكوّنات المجتمع الدولي في التعامل مع لبنان، وعلى عكس عواصم القرار الفاعلة لم تنظر باريس للحكومة الحالية على أنّها حكومة “حزب الله”، بل تعاملت معها، كما مع سابقاتها، على قاعدة الممر الإصلاحي الإلزامي، ومنحتها فرصة لإظهار جدّيتها في تنفيذ تعهداتها، ولكنّ الواقع أظهر فشل هذه الحكومة. “وعلى رغم استيائها من الأداء الوزاري، أرسلت وزير خارجيتها إلى بيروت في رسالة دعم لوجودية الدولة اللبنانية. ولأجل إرساء استقرار لبنان تبدي فرنسا استعدادها للقيام بمبادرة للحفاظ على الصيغة اللبنانية، وتعمل على محاور وخطوط أخرى، منها المساعدة في تثبيت الإستثناءات اللبنانية من مفاعيل قانون قيصر، من هنا تعمل فرنسا على أن لا يعرّض أيّ تبادل تجاري مع العراق لبنان لعقوبات دولية، وكما وتجري اتصالات مع الكويت لترجمة التمايز الكويتي والمضي في إقناع الدول الخليجية بعدم التخلّي عن لبنان”.
أمّا مفاعيل مؤتمر “سيدر”، أضاف الشحيمي، ستبقى في ثلّاجة الإنتظار، ولا إمكان لمنح لبنان قروض الجهات المانحة في “سيدر” قبل الإتفاق مع صندوق النقد الدولي على برنامج دعم، منطلقه المحوري الإصلاحات.