كتب منير الربيع في “المدن”: شكل موقف البطريرك الماروني بشارة الراعي انقلاباً في وجدان المسيحيين. إنها صحوتهم التي يريدون لها أن تستمر، لمواجهة تغيير وجه لبنان الحضاري والثقافي، على ما قال الراعي في قداس أمس الأحد 19 تموز الجاري.
من بغداد إلى بيروت
مواقف البطريرك لا تقتصر حيثياتها على المحلية فحسب. فإلى استناده إلى مواقف دولية، فإن لغة الحياد تتمدد من بغداد إلى بيروت. وكذلك لغة إغلاق المعابر غير الشرعية وإقفال “سلطنات” طهران الاستراتيجية وخطوط إمدادها.
ولم تعد الضغوط مقتصرة على خطوط الإمداد فحسب: على الحدود الإيرانية – العراقية، والعراقية – السورية، والسورية ـ اللبنانية؛ بل تمتد اليد أيضاً إلى الجغرافيا التي تمثّل حواضر احتضان المشروع الإيراني، من طهران إلى بغداد والشام وبيروت، ووصولاً إلى صنعاء. وإغلاق المعابر، يتكامل مع فكرة الحياد لبنانياً وعراقياً.
كرة الثلج تتدحرج
نداء البطريرك الماروني بشارة الراعي عن حياد لبنان، ليس “صوتاً صارخاً في البرية”، وفق توصيف رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع. بل هو كرة ثلج تتدحرج، ويُراد له أن يكون صوتاً طالعاً من تظاهرات شعبية وسياسية لبنانية عارمة، تؤسس لمرحلة جديدة. مرحلة تنتظر الكثير من التصعيد والتحولات السياسية من الآن إلى ما بعد الانتخابات الأميركية.
شطر وازن وواسع من الطائفة السنية يلاقي موقف الراعي حول الحياد. وليد جنبلاط ثابت على موقفه: “عند تغير الأمم احفظ رأسك”. وهناك قوى مسيحية واسعة تتحلق حول البطريرك. لم يعد باستطاعة رئيس الجمهورية ميشال عون وتياره أن يبقيا خارج السرب. وذهب جبران باسيل إلى الديمان. طلب من الراعي تخفيف لهجته قليلاً، وعدم استفزاز حزب الله. لكنه لم يتمكن من تلافي الكلام عن الحياد، ولو بالتفافات لغوية وتغليفها باستعادته عبارة قديمة مستهلكة: النأي بالنفس.
ضربات في إيران
مسألة تثبيت الحياد تتخذ منحى تصاعدياً وتصعيدياً من الأميركيين والإسرائيليين. وإذا حملنا الصورة على بساطتها، نستعيد تصعيد حزب الله ضد الضغوط التي يتعرض لها محور الممانعة، ورده عليها بنشره فيديو يحدد فيه أهدافاً إسرائيلية قادر على ضربها وتدميرها بصواريخه الدقيقة.
بعد انتشار الشريط يتحدث قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني إسماعيل قآني، عن قدرته على تدمير إسرائيل. فكان الردّ الإسرائيلي والأميركي هذه المرّة بفاعلية كبيرة: استهداف مواقع أساسية داخل الأراضي الإيرانية. والمواقع المستهدفة تمثّل رمزياً ومادياً إحدى المرتكزات الأساسية لتصدير الثورة ونشر المشروع الإيراني في المناطق، لا سيما أن المواقع المستهدفة على علاقة بمشاريع الطاقة أو البرنامج النووي.
تعني هذه الضربات أن استهداف إيران في المنطقة لم يعد يقتصر على غارات إسرائيلية أو مجهولة، تستهدف قوافل الأسلحة على الحدود العراقية ـ السورية، أو اللبنانية ـ السورية، ولا مواقع الإيرانيين وحلفائهم في سوريا. بل انتقلت الضربات إلى الداخل الإيراني، لا بد أن تتوسع.
سقوط الاستثناء اللبناني
ومن نزع الحُرْم عن إيران، لن يبقيه مخيماً على لبنان، في ظل تخوف من احتمال تمدد عمليات قصف الطائرات المجهولة المعلومة بعض مواقع حزب الله في لبنان. إذّاك، لا يمكن الركون إلى معادلة استثناء لبنان من عمليات التصعيد هذه.
فقد يسقط الاستثاء اللبناني، تماماً كما سقط الاطمئنان إلى الموقف الأميركي والدولي الجامع القائل باستحالة السماح بانهيار لبنان مالياً واقتصادياً. وكان أن استفاق اللبنانيون على مصائبهم المالية والاقتصادية الغارقين فيها الآن.
لذا ليس مستبعداً حصول ضربات تستهدف مواقع أو مخازن صواريخ أو منصات لإطلاقها في لبنان.
اليونيفيل والصواريخ
ولكن بمعزل عن السياق العسكري، لا بد من مراقبة سياق التصعيد السياسي الدولي، ولو رمزياً: زيارة السفيرة الأميركية دورثي شيا قبل أيام الجنوب اللبناني، وتفقدها عمل قوات الطوارئ الدولية.
واليونيفل أحد العناوين الأساسية التي تركز عليها واشنطن حالياً، لتعزيز نطاق عمل القوات الدولية. وتضغط أميركا على الدول الممولة لقوات اليونفيل لوقف دفع مستحقاتها، ما لم يحدث تغيير جوهري وتعزيز فاعليتها في مهامها.
أسقطت فرنسا وروسيا والصين مسألة تعديل صلاحيات نطاق عمل القوات الدولية. لكن واشنطن ستعمل على تفجير مسألة التمويل في وجه هذه الدول، وخصوصاً فرنسا.
مسار التصعيد من بوابة اليونفيل سيستمر في إصرار أميركا على تعزيز قدراتها بكاميرات مراقبة وأجهزة حساسة لرصد أي تحرك لسلاح حزب الله في تلك المنطقة. وتتحدث المعلومات عن أن الأميركيين يشددون على تفكيك صواريخ الحزب الدقيقة، وتسليم خريطة انتشارها. وهذا من سابع المستحيلات لدى حزب الله.
المواقف الحالية لا تشير إلى احتمال تراجع أي من الطرفين. واستمرار التصعيد قد يجد طريقة للتنفيس في حلقة تفاوضية ما، في ثغرة في جدار ما. لكن هذا لا بد أن يبدأ بتنازل ما يقدمه حزب الله، في مجال الصواريخ وتفكيكها، إلى جانب الشروع في ترسيم الحدود.
وفي هذا السياق، لا بد من توقع المزيد من الضغوط، اشتداد الحصار، وتنامي مخاطر حدوث خطأ عسكري ما غير محسوب.