راودتني العديد من التساؤلات في الاسابيع القليلة الماضية، والتي تمحورت جميعها حول الحراك الشعبي الذي انطلق في 17 تشرين الفائت مطالباً بحقوق المواطن اللبناني في وطنه، وحملني الحنين مراراً على أجنحة الحلم الى الزمن الذي أسميته جميلاً آنذاك، ورحت أبحث بين الوجوه الناشطة عن أولئك الذين أطلقوا على أنفسهم لقب قادة الثورة، وسرعان ما خطرت في بالي أغنية السيدة فيروز حين قالت “وينن؟ وين وجوهُن وين صواتُن وينن”؟ نعم، “وينن”؟ وكيف تنازل هؤلاء عن بارقة الأمل وتفلّتوا من أيادٍ تشبّثت بقميصهم وسارت خلفهم على امل التغيير؟!
وفي ظلّ الأزمات الداخلية المتراكمة والمصائب التي ألمّت بالمواطنين وطاولت لقمة عيشهم وأرزاقهم وأموالهم، ومع الانتشار “المزعوم” لوباء كورونا والانقطاع المتواصل للتيار الكهربائي وأزمة المازوت بفعل الاحتكار الكافر، وفي غمرة حرارة فصل الصيف والبؤس الذي خيّم على البيوت اللبنانية، أصبح جائزاً للعقل البشري أن يتفكّر عميقاً في كل الاحداث الماضية ويتساءل استفسارا وتعجّباً؛ تُرى لماذا صمتت الحناجر؟ وأين هم المناضلون الذين تربّعوا في تلك المرحلة على الشاشات رافعين راية محاربة الفساد ورفض الطبقة السياسية بأكملها، داعين الناس الى التضامن معهم والانضمام اليهم من أجل تحصيل ما تبقّى من فُتات حقوقهم، حيث ذهب معظمهم الى تحميل مسؤولية كبرى لمن اعتبروهم متخاذلين ومتآمرين على فكرة اعادة بناء الوطن!
ألا يبدو منطقيا جدا أن نرفع صوت التساؤلات عالياً علّنا نعلم كيف انتصر الصمت المطبق على الظروف القاهرة حتى بات الحراك عبارة عن تحركات فردية هزيلة بعضها اعتراضا على الاوضاع المعيشية الرديئة، وبعضها الكثير مجرّد اعمال شغب و”حركشات” لم تلقَ آذاناً صاغية نظرا لعدم جدّيتها او قدرتها على التأثير! لماذا لم يتمكّن “ابطال الحراك” بصفتهم ممثلين عن الشعب الثائر من بناء هيكلية تنظيمية بأطر سياسية وحزبية واضحة تستطيع التحرّك لتجييش اللبنانيين من جديد وحشدهم في الساحات لإسقاط مشروع اللامبالاة الذي اعتمدته حكومة الرئيس حسان دياب لإخماد شعلة الثورة؟!
مما لا شك فيه أن سؤالي الاخير جاء بمعرض “الزكزكة” لاستثارة النفوس الوطنية علّ الأذن تعود لتطرب بالهتافات الشعبية وتتغنى العين بمظاهر الوحدة الوطنية الحقّة والبعيدة عن عراضات الحكومات جميعها وتسمياتها الهجينة لزوم “الضحك عالعقول”! لكنني وإن كنت لا اتعمّد اللعب على وتر الاستفزاز، لا يمكنني أن أتغاضى عن الكسل، بأقلّ تعبير، الذي هزم المتحمسين لخوض معركة التغيير، فما جنينا بعد أشهر طويلة سوى بضعة نجوم عُلّقت على أكتاف هؤلاء وحصاد شهرة افتراضية توجّها عدد لا بأس به من المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي.
هل فقد اللبناني في ظلّ انغماسه باللهث خلف لقمة عيشه ترف المطالبة بحقوقه؟ أم فقد جزء كبير من المجتمع ثقته بالمشهد الثوري الذي احتكم اليه من أجل نُصرته على ظلم الحكام واستحكامهم برقاب العباد وحياتهم ومستقبل أبنائهم؟
لست طبعا بصدد الهجوم على الحراك، وقد تطالني بعض التعليقات المندّدة بالعديد من مواقفي السابقة تجاه ثورة 17 تشرين، حيث تجرّأت في كثير من الاحيان على انتقادها بهدف تصويبها، ناهيك عن بعض الاصوات التي ستخرج لتتهمني انني “بنت السلطة” وبالتالي، ومع هذه الصفة التي أرادوها أن تكون “وصمة عار”، لا يحقّ لي أن أنضمّ الى صفوف المنتفضين، كما لو أنني أعيش في La la land مكتفية، فيحلو لي التنظير على وجع الناس من بعيد!
لا يا سادة! كل لبناني على أرض الوطن يملك حق المطالبة باسترجاع حقوقه المسلوبة وحق أهله وأبنائه وأحفاده حتى وإن لم يبقَ من عمره الكثير ليهنأ ببعض الانتصارات. نعم، من حقّنا جميعا ان نثور على تقصير بعضهم واستهتار البعض الآخر واستهزاء الاغلبية بحرقتنا وصبرنا وذلّنا! وإن كنت اقول ما أقول، فأنا أعبّر بلا شك عما تضمره الاكثرية اللبنانية من الشعبيين والحزبيين، ولعلّ الفئة الاخيرة اختارت الصمت بديلا عن تحمّل اتهاماتكم بالخيانة والتآمر والتبعية!
دعوني اليوم وفي اول أيام عيد الاضحى المبارك، أطلق صرخة بوجه الذين ساهموا الى جانب السلطة اللبنانية الحاكمة بتدمير احلام الناس، فهؤلاء احتكروا الثورة كما احتكر اولئك السلطة، وأخذوها حيث شاءوا الى مكان غريب عنّا جميعاً وفشلوا بإدارتها وأفشلوها وأحبطونا ثم عادوا الى مقاعدهم أبطالا من ورق يحملون معهم، للانصاف، نيشان شرف المحاولة. وإذ خفتُ أن أظلم أحدا وأن أتجنّى على نضال الشبان والشابات للوصول الى غاياتهم المنشودة، خطر في بالي أن يكون اشتداد الحرّ عاملاً رئيسيا وراء تنحّيهم عن المواجهة، أو أن العطلة الصيفية فتحت أبوابها للّهو والمتعة، فغاب طيف الحق عن الأذهان او ربما التحق بالاجازة!
وللموضوعية، لا يجوز تحميل الحراك وحده مسؤولية تسرّب النضال، بل ان المقلب الآخر أشد تعاسة وفشلاً، حيث أن حكومة “الانجازات الصاروخية” لم تستطيع تحقيق شيء من التزاماتها ضمن المهلة المحددة، رغم حماقة احتفالاتها، بل على العكس، وقفت حائرة مع هبوب رياح “كورونا” بين التعبئة العامة والاقفال التام لتجنيب الناس كارثة صحية، او الابقاء على البلد مفتوحا رغم المخاطر لتفادي الضررالاقتصادي والمعيشي!
سلطة هزيلة عاجزة عن اتخاذ قرار بهذه الحساسية، ماذا يمكن أن نتأمل منها؟ حكومة ضعيفة، رغم ادعاء الاختصاص، ساهمت بانتكاسة علاقة لبنان بالشركة الموردة للفيول من دون تأمين اي بديل وتركت الناس تغرق في العتمة والحرّ والقلق والملل! سلطة تعرف جيدا اسماء المحتكرين على انواعهم، ولا تتخذ اي اجراء جدي ضدّهم! سلطة تلقي القبض على الصرافين العابثين بأرزاق شعبها ثم تقوم بإطلاق سراحهم! سلطة غير قادرة على ضبط سعر صرف الدولار في السوق السوداء، وعلى منع التجار الذين استوردت لهم المواد الغذائية بسعرمنخفص من اعادة تصدير هذه السلع الى الخارج، في حين أن المواطنين يواجهون شبح العوز والجوع والفقر وحدهم. سلطة “الاقوال لا الافعال” ولعلّ الله أنطق اللسان بالحق آنذاك، او لعلّ الشؤم خرج عفوياً من الأفواه! سلطة متغافلة وشعب منهكٌ حدّ الشلل… فلا تحدّثني بعد اليوم عن بناء وطن!