فبعد أقلّ من 7 أشهر على ولادتها بعد استقالة حكومة الرئيس سعد الحريري على وهج انتفاضة 17 أكتوبر 2019، استقالت حكومة دياب على هدير بيروتشيما الذي تردّد صداه في العالم بأسره.
وقال دياب في كلمة متلفزة: “اليوم وصلنا إلى هنا، إلى هذا الزلزال الذي ضرب البلد (…) اليوم نحتكم إلى الناس وإلى مطالبهم بمحاسبة المسؤولين عن الكارثة المختبئة منذ سبع سنوات، إلى رغبتهم بالتغيير الحقيقي”، مضيفاً: “أمام هذا الواقع نتراجع خطوة إلى الوراء بالوقوف مع الناس (…)، لذلك أعلن اليوم (الاثنين) استقالة هذه الحكومة”.
وتابع في كلمة للشعب اللبناني إن انفجار بيروت كان نتيجة الفساد المتفشي. وصرّح بأن “منظومة الفساد أكبر من الدولة ونحن لا نستطيع التخلص منها، وأحد نماذج الفساد انفجار بيروت”.
واعتبر دياب ان “حجم المأساة أكبر من أن يوصف، ولكن البعض يعيش في زمن آخر والبعض لا يهمه سوى تسجيل النقاط الشعبوية الانتخابية”.
وتابع: “هؤلاء لم يقرأوا جيدا ثورة 17 تشرين الأول، وتلك الثورة كانت ضدهم واستمروا في حساباتهم وظنوا انهم يستطيعون تمييع مطالب اللبنانيين بالتغيير”.
وواكب استقالة رئيس الحكومة تحركات غاضبة رفعت شعار استقالة البرلمان، الذي حاول العديد من المتظاهرين اقتحام جداره بعد رشقه بالحجارة، ما دفع قوات الامن إلى إطلاق الغاز المسيل للدموع.
وبدا المسار الذي استقيلت معه حكومة دياب حمّال أوجه بخلفياته كما تداعياته، بما جعل البلاد أمام سيناريوهاتٍ قاتمة لم يكن ممكناً تحديد وُجْهتها ولا قياس أبعادها الحقيقية لِما تنطوي عليه من عناصر داخلية وخارجية وما يترتّب عليها من نتائج على هذين المستوييْن.
وعلى مدى يوم ماراثوني من حبْس الأنفاس استمرّ حتى ساعات المساء الأولى، حين أعلن دياب أن حكومته استقالت، ارتسمت مؤشراتٌ واضحة إلى أن هذه الحكومة باتت بلا غطاء وبحُكم المستقيلة بعدما صارت أسيرة حصار ثلاثي البُعد تجلى في الآتي:
أن أكثر من ثلث أعضائها الـ 20، إما استقال علناً أو كان كتاب الاستقالة في جيْبه حين حضر إلى الجلسة الوزارية التي نُقلت في ربع الساعة الأخير من القصر الجمهوري إلى السرايا في إشارةٍ بدت كافية لتأكيد أن الاستقالة أصبحت قاب قوسين.
وكان لافتاً أن الاستقالة القيصرية لحكومة دياب خضعت لقراءات متباينة وفق الآتي:
* أن هذه الاستقالة هي في سياق الارتدادات التلقائية لزلزال بيروت الذي كان جَعَل دومينو الاستقالات من الحكومة والبرلمان يتدحرج تحت وطأة هول الكارثة وحصيلتها المروعة، في ظل الأسئلة الكبرى عن المسؤوليات المباشرة السياسية والمعنوية والأمنية والإدارية، سواء عن الإهمال الذي أفضى إلى الفاجعة، أو حتى عن أي عمل مقصود خارجي قد يكون وراء إعصار النار وخصوصاً مع عدم إسقاط فرضية ارتباط ما حصل بالصراع الكبير في المنطقة.
* أن سقوط الحكومة هو من ضمن فتْح الباب أمام مرحلة تبريدية في لبنان تستوجبها دراماتيكية اللحظة والحجم الكارثي للخسائر البشرية والاقتصادية في بلادٍ تواجه أصلاً انهياراً مالياً شاملاً، وذلك في سياق مسارٍ يحظى برعاية دولية ويراوح بين حدّين:
أوّلهما تنويم الانهيار الكبير في انتظار تبلور الحلول الكبرى في المنطقة وذلك عبر تشكيل حكومة وحدة وطنية تؤيّدها فرنسا باعتبارها مانعة صواعق أمام الفوضى التي ستطاول الإقليم وأبعد، كما تقطع الطريق على مزيد من الاستثمار الإيراني في السقوط المريع للبنان.
أما الحدّ الثاني، فأن تكون الإطاحة بحكومة “حزب الله”، التي تستند إلى أكثرية برلمانية جاءت بها انتخابات 2018، حجر الزاوية في مسارٍ يُفْضي إلى تسويةٍ تشمل تشكيل حكومة حيادية وإجراء انتخابات نيابية مبكرة، ومجمل الملفات الخلافية (سلاح حزب الله وأدواره الخارجية) بما يوفّر أرضيةً “لكرة واحدة ونهائية” لإصلاحات تقنية وسياسية تُفْرِج عن المساعدة المالية لـ«بلاد الأرز» للخروج من الحفرة العميقة بعيداً من الممر الإنساني المنفصل الذي كرّسه مؤتمر دعم لبنان الذي عُقد الأحد ولم تكن نتائجه بحجم التوقعات وأكد عدم ثقته بالسلطة لإدارة العون الدولي للبلد المنكوب بتسونامي 4 آب.
وبدت أوساط واسعة الاطلاع حذرة في مقاربة المرحلة التالية في لبنان وسط مؤشرات واضحة إلى أن حكومة الوحدة الوطنية دونها مواقف معلنة رافضة من أطراف المعارضة وهو ما عبّر عنه بوضوح أمس كل من جعجع وجنبلاط، في حين أن مطلب الانتخابات النيابية المبكرة الذي أصرّ عليها هذان الفريقان كعنوانٍ للمرحلة المقبلة هو خط أحمر من الثنائي الشيعي وحتى من عون، وسط اعتبار هذه الأوساط أن المنحى التأنيبي لدياب على تَفَرُّده في هذا الطرح ولو من باب شراء الوقت لحكومته المترنّحة، أريد منه ان يكون رسالة واضحة بالواسطة للخصوم. وإذ تذكّر هذه الأوساط بصعوبة تَصَوُّر سير الولايات المتحدة بحكومة وحدة وطنية تعيد “حزب الله” إلى دائرة القرار، رغم الإيحاءات بانفراجاتٍ مرتقبة في ملف ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل من ضمن بدء مسار مقايضاتٍ موْضعية ولكنها تنطوي على إشارات برسْم مجمل رقعة شطرنج الصراع في المنطقة، ترى أن صعوبةً لا تقلّ ثقلاً تبرز أمام تَصَوُّر قبول تحالف عون – “حزب الله” بحكومة حيادية ستُفسَّر على أنها هزيمة وإقرار بفشل هذا التحالف الذي يقبض على الغالبية النيابية.
وفي حين ترى الأوساط نفسها أن مجمل هذه الوقائع تجعل المرحلة المقبلة محفوفة بالغموض الكبير وما قد تخبئه الأيام من قطب مخفية أو استقطابات حادة في المشهد اللبناني الذي لا يحتمل فوضى سياسية ومؤسساتية هو الذي يصارع الأزمة المالية «الأصلية» ويحتاج لحد أنى من الاستقرار للاستفادة من مفاعيل جسور الدعم الإغاثي المفتوحة للشعب اللبناني، لم يستبعد بعض الدوائر أن تكون الاستقالة الاضطرارية لدياب، والتي بقيت حتى ربع الساعة الأخير رهن اتصالات مكوكية صُوِّرت على أنها لترتيب مخارج تفرْملها، من باب استيعاب الصدمة أو امتصاص نقمة الغضب على السلطة وتالياً التمهيد لفترة طويلة من تصريف الأعمال قد تشهد تعقيدات تبدأ حتى من تكليف رئيس الحكومة الجديد الذي سيكون اختياره رهْن شكل الحكومة والتفاهم الصعب على مجمل المرحلة التالية.
وكان عون تلقى أمس اتصالاً من نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون وتداولا في نتائج مؤتمر دعم بيروت والشعب اللبناني الذي عقد الأحد افتراضياً في باريس، واتفقا على استمرار التواصل لمتابعة تنفيذ ما اتُفق عليه في المؤتمر وتنسيق مواقف الدول المُشارِكة.