كتبت صحيفة “الراي” الكويتية”: بدت بيروت أمس، وكأنها مصابة بـ”عمى الألوان” وهي تحاول “الرؤية” بين طبقات الغبار الكثيف المتطاير من قبالة الساحل اللبناني وسط حركة حاملاتِ طائراتٍ غربية ترسو على وقع التموّجاتِ الأمنية – السياسية الهائلة التي أحدثها “بيروتشيما” قبل 12 يوماً، ومن قلب شرق المتوسط الذي دهمتْه الرياح الساخنة التي هبّت من شواطئ ليبيا والصراع المائي – النفطي – الغازي – السياسي الموصول بأزمتها المتعدّدة الطرف، كما من صلب المواجهة الطاحنة في المنطقة بين الولايات المتحدة وإيران.
وبمعزل عن الوقائع المحلية المتصلة بملف تشكيل الحكومة الجديدة عشية مرور أسبوع على الاستقالة التي أعلنها الرئيس حسّان دياب على وهج التفجير الهيروشيمي في مرفأ بيروت والذي تتوالى تصنيفاتُه وآخِرها أنه قد يكون (وموجته المدّمرة) “من بين أكبر الانفجارات غير النووية في كل العصور”، فإن مجمل المنحى الذي سلَكه الواقع اللبناني منذ زلزال 4 آب ، يشي بأن البلاد باتت بالكامل أسيرةَ العواصف المتشابكة في المحيط وتَقاطُعاتها الخطيرة وصراع المصالح الكبرى الذي يُنْذِر بأن المنطقة بتوازناتها وخرائط نفوذها تهتزّ ويعاد تشكيلها.
ومن هنا، تعتبر أوساطٌ واسعة الاطلاع أنه لم يعد ممكناً قراءة الهبّة الدولية في اتجاه بيروت التي تبلورت ملامحها على الأرض غداة تفجير المرفأ من خارج “مسرح العمليات” الاقليمي – الدولي المحتدم، بما يجعل الإحاطةَ الخارجية على مدار الساعة بالوضع الداخلي، على جبهتيْ الحكومة الجديدة وإعادة إعمار ما دمّره تسونامي 4 آب واستطراداً وضْع “بلاد الأرز” على سكة النهوض المالي – الاقتصادي، من ضمن مسارٍ مزدوج يتقاطع موضوعياً أو موْضعياً:
أوّله يرتبط بالمسألة – الأم لجهة الضغط الغربي – العربي لإحداث تغيير في الوضعية السياسية لجهة تخفيف قبضة حزب الله ومن خلفه إيران على لبنان وتموْضعه الاستراتيجي عبر حكومةٍ مستقلة أو محايدة ينطلق معها قطار الإصلاحات والإمساك بالحدود البرية والبحرية.
وثانيه يتّصل بالتوترات المتصاعدة على أكثر من محور مستجدّ بينها الكباش الذي يتمدّد كبقعة الزيت في المتوسط حول النفط والغاز والذي وجدتْ بيروت نفسها تتلقى تشظياته قبل أيام مع “التقاصف” التركي – الفرنسي الذي دخل الرئيس رجب طيب أردوغان مباشرة على خطه مُهاجِماً نظيره الفرنسي ايمانويل ماكرون الذي يقود مسعى، بتفويض أميركي ودولي، للدفع نحو «انتقال ناعم» على مستوى السلوك السياسي – الإصلاحي يبدأ بالحكومة اللبنانية العتيدة.
ومن ضمن رقعة الشطرنج المعقّدة هذه، ترى الأوساط أن الساعات الماضية حملتْ إشاراتٍ تعكس أن لبنان فوّت فرصة الخروج السريع من غرفة العناية الفائقة عبر الرافعة الدولية ليقع في شِباك الصراعات المتداخلة التي كان نجح في الأعوام الأخيرة في البقاء بمنأى عن التأثيرات اللاهبة لغالبيتها، والتي يُخشى الآن أن يكون صار في عيْنها وأن تفجير 4 أغسطس ربما دشّن مرحلة ساخنة لبنانياً مفتوحة على شتى الاحتمالات.
وفي هذا الإطار، استوقفت الأوساط مجموعة تطورات ارتسمت على تخوم ما حملتْه الزيارات المتزامنة لبيروت لكل من وزير الخارجية الايراني محمد جواد ظريف ووكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية ديفيد هيل، ووزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي التي أعلنت نشر حاملة الطائرات “تونير” (وصفتها بأنها من “العجائب” التكنولوجية وبمثابة مطار للمروحيات التي بإمكانها الإقلاع بسرعة نحو الأرض) في المياه اللبنانية وعلى متنها نحو 700 عسكري يجهزون أنفسهم لمساعدة بيروت، لتنضمّ هذه الحاملة إلى قطع أخرى (إحداها بريطانية) وصلت تحت جناح عمليات الإغاثة الانسانية. وأبرز هذه التطورات:
* اعتبار ظريف “أن مرابطة البوارج الأجنبية قبالةَ السواحل اللبنانية أمر ليس طبيعياً وتهديد للشعب ومقاومته»، رافضاً أي تحقيق دولي في انفجار 4 آب ، وراسماً ضمناً خطاً أحمر أمام أي حكومة يُراد منها استبعاد حزب الله بانتقاده التحركات الفرنسية والأميركية “فلبنان وحده حكومة وشعباً مَن يقرر في شأن الحكومة ويجب ألا يستغل أحد الظروف لفرض إملاءاته على لبنان”.
* المواقف العالية النبرة التي أطلقها الأمين العام لـحزب الله السيد حسن نصرالله ليل الجمعة والتي حملتْ طابعاً لم يخلُ من التهديد، وبدت أقرب إلى “البلاغ رقم واحد” الذي حدّد “أمر العمليات” للائتلاف الحاكم بضرورة قيام حكومة وحدة وطنية تكون “محمية سياسياً” وإلا على مَن لا يوافق على ذلك “الخروج من الحياة السياسية”، قبل أن يتوعّد بعد اعتباره المقاومة “مسألة وجود بالنسبة إلى لبنان وشعبه، حزب القوات اللبنانية من دون أن يسميه بـ”إنهائه” عبر دعوة مناصريه لـ”الحفاظ على غضبكم فقد نحتاج إليه يوماً لنُنهي كل محاولات جر لبنان إلى الحرب الأهلية” التي اعتبر أن السعي إليها حصل من خلال الضغط على الرئيس ميشال عون لإسقاطه بالاستقالة، ومحاولة إسقاط البرلمان بالاستقالات الجَماعية (جُمّدت).
* تَقاطُع المعلومات المتوافرة عن زيارة هيل لبيروت التي أنهاها أمس، والتقى خلالها كبار المسؤولين وقادة المعارضة والبطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي وسط بروز عدم اجتماعه برئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، عند انها عكستْ تفاهماً فرنسياً – أميركياً على “الف باء” خريطة الإنقاذ لبنانياً عبر حكومة محايدة تطبّق الإصلاحات الحقيقية “بعيداً من الوعود الفارغة والحكم غير الفعال”، وصولاً إلى تأكيده بعد جولة في المرفأ ضرورة وقف الفوضى على الحدود البرية والبحرية والسيطرة عليها من حكومةٍ “تعبّر عن إرادة الشعب وتستجيب لطلب التغيير الحقيقي”، قبل أن يكرّر “أن واشنطن تريد ضمان إجراء تحقيق شامل شفاف وموثوق في انفجار المرفأ، وأن فريقاً من مكتب التحقيقات الاتحادي سيصل إلى بيروت (بناء على طلب لبنان) وسنحرص على حصول اللبنانيين على إجابات شفافة حول ما حصل»، وذلك في موازاة وجود محققين فرنسيين على الأرض.
وشدد هيل على أنه “لا يمكننا ان نعود إطلاقاً الى عهد يمر فيه أي شيء في ميناء لبنان او حدوده”. وقال للصحافيين بعد تفقده أضرار المرفأ “كل دولة وكل دولة ذات سيادة تسيطر على موانئها وحدودها بشكل كامل”.
وفي حين كان هيل يغادر بيروت على وقع تأكيد الخارجية الأميركية ترحيبها بتصنيف ليتوانيا “حزب الله منظمة إرهابيّة”، معتبرةً أنه “لطالما لعب الحزب دوراً مزعزعاً للأمن في أوروبا والولايات المتحدة والشرق الأوسط وحان الوقت لوضع حدّ لجرائمه”، برز ما يشبه تنسيق “الخطوة خطوة” الأميركي – الفرنسي حيال الوضع في “بلاد الأرز”، وهو ما عبّر عنه كشْف ماكرون عن اتصال أجراه الجمعة بالرئيس دونالد ترمب تخلّله “بحث في الوضع في شرق المتوسط وليبيا ولبنان” مع تأكيد الرئيس الفرنسي أن «وجهات نظرنا تتلاقى. والسلام والأمن في المنطقة من مصلحتنا المشتركة، وسندعمها”.
وإذ اعتُبر مجمل هذا المناخ مؤشراً إلى أن ملف تأليف الحكومة الجديدة معلَّق حتى إشعار آخر على “الحبال المشدودة” إقليمياً ودولياً وسط خشية من توترات داخلية بدأت مناخاتها تتراكم مع الصِدام السياسي المستعاد حول الخيارات الكبرى وتأثيراته على الأرض الخصبة، لفت ما كُشف عن مضمون لقاء هيل والبطريرك الراعي الذي سلّم الديبلوماسي الأميركي رسالة إلى ترامب قبل ان يودعه وثيقة مشروع الحياد التي أعدّها ويعلنها في مؤتمر صحافي غداً.