بعد نحو 13 عاماً على تأسيسها، بموجب مرسوم صادر عن الأمم المتحدة، تصدر المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في 18 آب الجاري، حكمها في قضية اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، في تفجير ضخم بسيارة مفخخة استهدف موكبه مقابل فندق سان جورج وسط بيروت، بتاريخ 14 شباط 2005. وستنطق المحكمة بحكمها غيابياً بحق أربعة متهمين تقول إنهم ينتمون إلى حزب الله، في قضية غيّرت وجه لبنان ودفعت لخروج القوات السورية منه.
الخلافات السياسية
مزق الانفجار شرفات على طول الشاطئ، وتحطمت النوافذ على بعد عدة مبانٍ، وتردد صداها في جميع أنحاء بيروت، تاركاً مدينة حُطمت بسبب الخسائر التي لا تُحصى.. حدث ذلك قبل 15 عاماً وخمسة أشهر وثلاثة أسابيع، عندما اغتيل رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، و21 شخصاً آخرين، في تفجير سيارة مفخخة دمرت الواجهة البحرية للعاصمة اللبنانية، وأحدثت اضطراباً في الشرق الأوسط.
وقد أعادت صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، فتح ملف اغتيال الحريري، بينما يكافح سكان لبنان البالغ عددهم 6.8 مليون نسمة في مواجهة صدمة التفجير الهائل الذي وقع يوم الثلاثاء 4 آب، وأودى بحياة أكثر من 180 شخصاً وسوّى مساحات شاسعة من العاصمة.
وتلفت الصحيفة إلى الخلاف الذي نشب بين الأحزاب السياسية اللبنانية حول ما إذا كانت ستدعو إلى تحقيق دولي على غرار التحقيق في اغتيال الحريري. وتذكر بأن إجراءات قضية الحريري كلفت نحو 700 مليون دولار، واستغرقت سنوات عديدة، وأصبحت “صناعة افتراضية” في حد ذاتها مع ما يقرب من 411 قاضياً بدوام كامل. هؤلاء جميعهم من أجل محاكمة لم يحضرها حتى المتهمون الأربعة وهم أعضاء في حزب الله، لم يُعرف مكانهم وحوكموا غيابياً.
الانقسامات تتجدد
تشير الصحيفة الأميركية إلى أن قضية الحريري، مثل التفجير الذي دمر بيروت قبل أيام، هي مؤشر بارز على افتقار المساءلة والخلل الحكومي والانقسامات السياسية المتقلبة التي ابتُلي بها لبنان منذ فترة طويلة. وما يزيد الطين بلة، أنه حتى قبل الانفجار العظيم في المرفأ، كانت البلاد تعاني من ديون هائلة وأزمة اقتصادية متسارعة وفساد وتفشي لجائحة كورونا وعبء استيعاب أكثر من مليون لاجئ حرب من سوريا.
ولكن، كما حدث مع اغتيال الحريري، أدت المأساة الأخيرة إلى تأجيج الانقسامات السياسية العميقة في لبنان. وبدوره نفى أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، التكهنات بأن الانفجارات ربما تكون ناجمة عن مخبأ للأسلحة تابع للحزب.
من هنا، فإن النوع ذاته من الانقسامات في قضية الحريري يلوح في الأفق اليوم، حين رفض حزب الله محكمة الحريري باعتبارها أداة يستخدمها أعداؤه. في وقت اغتياله، كان الحريري الذي جمعته روابط قوية مع حكام فرنسا والمملكة العربية السعودية، يشتبك مع الرئيس السوري بشار الأسد، الذي كان جيش بلاده يحتل لبنان منذ ما يقرب من ثلاثة عقود. وكان يسعى إلى إنهاء الهيمنة السورية. كما عارض الحريري الأب علاقات حزب الله الوثيقة مع سوريا وإيران.
ماذا عن دور سوريا وإيران؟
مباشرةً بعد اغتيال الحريري، توجهت أصابع الاتهام إلى سوريا. وأشار تحقيق مبكر للأمم المتحدة إلى تورط مسؤولين سوريين كبار وشركائهم اللبنانيين. وتحت ضغط دولي هائل، انسحبت سوريا من لبنان بعد شهرين. لكن الأدوار المحتملة لسوريا وإيران في الاغتيال كان من الصعب للغاية إثباتها ولم يتم التدقيق فيها في المحاكمة، وهي زلة قوبلت بانتقادات واسعة.
وعن هذا الموضوع، يقول جينايل ميترو، وهو رجل قانون عينته المحكمة الخاصة بلبنان كمحامي دفاع: “الشيء الأكثر إثارة للصدمة في القضية هو مدى ضآلة الاستثمار في معرفة من أمر بالاغتيال وخطط له ومن كان له مصلحة في قتل الحريري. هناك جريمة قتل لم يُحدد الدافع خلفها”.
تحقيقات ميليس
بتفويضٍ بالتحقيق في جرائم الإرهاب استناداً إلى القانون اللبناني، تم تكليف المحكمة بطاقم مختلط لبناني ودولي. وبما أنها ليست هيئة تابعة للأمم المتحدة، دفع لبنان نصف ميزانيتها والنصف الآخر من الميزانية وفرته حكومات غربية، بما في ذلك فرنسا والولايات المتحدة.
كانت الصعوبات واضحة منذ البداية. واضطر المحققون الذين أرسلتهم الأمم المتحدة إلى العمل في ظل إجراءات أمنية مشددة في بلد كان يعيش مع التفجيرات. ترافق ذلك مع خشية الشهود من الإدلاء بشهادتهم. أما ديتليف ميليس، المدعي العام الألماني الذي أرسلته الأمم المتحدة بعد وقت قصير من الاغتيال، فقد أفاد بأن السلطات السورية كانت تُعيق عمله.
حدد ميليس ما يقرب من 20 مشتبهاً بهم، من بينهم أربعة ضباط أمن لبنانيين كبار ومسؤولين سوريين كبار. وما هي إلا فترة وجيزة، حتى ترك ميليس التحقيق، بعد أن تأكد من أن مسؤولي الأمم المتحدة لم يعد بإمكانهم ضمان أمنه. وبأن تحقيقه قد يشعل حرباً طائفية في لبنان.
ومع افتتاح المحكمة قبل 11 عاماً، قال محامون مقربون من النيابة إن الأدلة حول دور كبار المسؤولين اللبنانيين أو السوريين لم ترتقِ إلى المستوى المطلوب في المحاكمة. وتم الإفراج عن أربعة ضباط أمن لبنانيين رفيعي المستوى على إثر ذلك.
عدالة غير كاملة
تعليقاً على عمل المحكمة الخاصة بلبنان، يقول مايكل يونغ، كبير المحررين في مركز “كارنيغي” للشرق الأوسط في بيروت : “أعتقد أن هناك رغبة في عدم الوصول إلى دوافع القتل لأسباب سياسية رغم توفر معلومات مهمة في السنوات القليلة الأولى”.
بدوره، يؤكد المدعي العام لدى المحكمة الخاصة بلبنان نورمان فاري، للصحيفة، إنه يأمل في تحقيق نوع من العدالة، ربما “عدالة غير كاملة” حتى من دون حضور المتهمين.
وعند سؤاله عن سبب عدم تحديد النيابة لمن يقف وراء عملية القتل، أجاب المتحدث باسم المحكمة، واجد رمضان، في رسالة بالبريد الإلكتروني: “لا يمكن لمؤسسة قضائية محاكمة الأشخاص إلا بناءً على أدلة يمكن تقديمها للمحكمة”.
والجدير بالذكر أن المحاكمة ركزت بشكل كبير على الأدلة الفنية. وأنتج المدعون خرائط تفصيلية لوقت ومكان إجراء المكالمات من الهواتف المحمولة للمتهمين، ما يدل على تتبع منهجي لتحركات الحريري. حتى أن الادعاء أجرى إعادة تمثيل للانفجار في قاعدة عسكرية في جنوب فرنسا.
عدالة أو لاعدالة
يلفت جينايل ميترو، الذي يدرس الآن القانون في المركز الأيرلندي لحقوق الإنسان في غالواي، إن الهدف الأساسي من المحاكمة في قضية الحريري غير واقعي. ويضيف “نحن محامو الدفاع ساهمنا في جعلها تبدو وكأنها محاكمة حقيقية. كان علينا أن نجادل، لكن لم يكن لدينا دليل حقيقي على أن المتهمين كانوا على قيد الحياة”.
وعلى المقلب الآخر، قال مؤيدو المحكمة، إن هدفها كان “تمكين” القضاء وإدخال حقبة جديدة من المساءلة في بلد ومنطقة لها تاريخ في تسوية الخلافات السياسية بالاغتيال. لكن سرعان ما انقسمت الآراء حين استنكر معارضو الحريري ذلك باعتباره “أداة لمهاجمة سوريا وإيران”.
وحسب الدكتور ساري حنفي، عالم الاجتماع في الجامعة الأميركية في بيروت، الذي درس التصورات اللبنانية عن المحكمة، فإن “الاستقطاب المحيط بالمحاكمة يعكس فشل لبنان في معالجة صدمة الحرب الأهلية التي دارت بين عاميّ 1975 و1990”.
شكوك حول فعالية المحكمة
بالنسبة لبعض منتقدي مجال العدالة الدولية الآخذ في الاتساع، أثارت محكمة لبنان، حسب الصحيفة، شكوكاً جديدة بشأن فعالية إنشاء مؤسسات خاصة مكلفة للتعامل مع الجرائم البعيدة والمعقدة.
لذلك يقول ويليام شاباس، أستاذ القانون في جامعة “ميدلسكس” في لندن، عن محكمة لبنان: “كان هذا استخداماً غير متناسب للموارد، نظراً للعدد القليل من الضحايا، مقارنةً بالفظائع في أماكن أخرى من العالم. سيكون الأمر رمزياً في النهاية لأنه لا يمكن معاقبة أي شخص يُدان. وإذا تم العثور على المتهمين، فسيتعين محاكمتهم مرة أخرى”.