حضر القداس رئيس الرابطة المارونية النائب السابق نعمة الله أبي نصر وأعضاء الرابطة، مجموعة من الشباب والشابات كانوا انطلقوا بمسيرة راجلة يوم الجمعة من أمام كهرباء لبنان في كورنيش النهر والجميزة من تنظيم تجمع “لبنان سيد حر مستقل”، “جبهة السيادة اللبنانية”، “ثوار مزرعة يشوع”، تحت عنوان “نريد من جيشنا اللبناني ان يحمي لبنان”، قاطعين مسافة 98 كلم الى جانب عدد من المؤمنين، التزموا المسافات الآمنة وارتداء الكمامات.
وبعد تلاوة الانجيل المقدس القى الراعي عظة بعنوان: “المطلوب واحد” (لو 42:10)، جاء فيها: “1. المطلوب الواحد هو سماع كلمة الله، بل سماع يسوع نفسه، لأنه هو الكلمة إياها التي صارت بشرا (يو 14:1). المطلوب الواحد هو الجلوس مع الله، والإصغاء الى كلامه في الكتب المقدسة، والى ايحاءاته عبر صوت الضمير، الذي هو صوته في أعماق نفوسنا. نسمعه قبل البدء بأيِ عمل أو أيِ ممارسة لواجب أو لمسؤولية في العائلة والمجتمع، وفي الكنيسة والدولة، لكي يتخذ دينامية وقوة، ويأتي عملنا ونشاطنا التزاما بكل ما هو حق وعدل وخير وجمال. هذا المطلوب الواحد اختارته مريم، فكان النصيب الأفضل الذي لا ينزع منها(لو 42:10).
2- كم نحن بحاجة، وسط ضجيج هذا العالم وهمومه وانتكاساته ومآسيه، لأن نجلس على أقدام الرب الذي لا نراه، ونستمع اليه يخاطبنا بكلامه الموحي وصوت الضمير، ويدخل إلى أعماق نفوسنا. فكلامه، بحسب المزمور نور لخطانا (مز 118) وبقول بطرس ليسوع: إن عندك كلام الحياة (يو 68:6). الإستغناء عن سماع كلام الله يقود حتما الى سماع صوت المصالح الفردية والفئوية، وصوت الأحقاد والثأر، وصوت الحرب والقتل والدمار، وصوت الكبرياء والنفوذ والاستكبار. هذه كلها أصوات تهدم الأوطان، وتهلك الشعوب، وتؤجج نيران الفتن والنزاعات. كلام الله يدعو الى السلام والمغفرة والبناء والإنماء، والى مساعدة كلِ انسان ليعيش حياة كريمة ويحقق ذاته، والى فتح آفاق جديدة لأجيالنا الطالعة في رحاب الوطن، هم الذين تثقفوا وتخرجوا من مختلف جامعاتنا بتضحيات أهلهم وسخائهم.
3. هذا ما جئتم تطالبون به، أيها الشبان والشابات، تحت اسم ثورة لبنان الحضارية، بحضوركم إلى هذا الكرسي البطريركي في الديمان، عبر مسيرة طويلة بدأتموها أول من أمس من بيروت الجريحة المنكوبة، حاملين جراحها في أعماق قلوبكم، من بعدما جمعتم ركامها ونظفتم شوارعها وقدمتم المساعدة لأهاليها وزرعتم الرجاء في قلوبهم، مع أمثالكم من الشبان والشابات الذين تطوعوا من مختلف المناطق، ومع الهيئات والجمعيات والمؤسسات الانسانية والاجتماعية، مدعومين من محسنين لبنانيين من الداخل والخارج، ومن دول صديقة أعربت عن تضامنها مع الشعب اللبناني وحبها للبنان. نشكرهم جميعا ونصلي من أجلهم في هذه الذبيحة الإلهية. وفي المناسبة، نلفت الى ضرورة تنظيم الاغاثة نظرا لحجم الحاجات الكبير، وضخامة عدد المشردين من دون سقف ومأوى، وإنشاء هيئة إغاثة دولية خاصة بلبنان تتكون من مجموعة دول شقيقة وصديقة مع ميزانية بحجم الكارثة، وتتولى مسؤولية إعادة إعمار بيروت. فالمسألة ليست ترميم منزل بل بناء مدينة بكل ما تمثل من بشر وحجر وتراث ورمزية وتاريخ وصيغة تعايش. فكم يؤلمنا أن تستقبل العاصمة بيروت المئوية الأولى للبنان الكبير وهي ثكلى ويتيمة وجريحة وحزينة ومنكوبة.
4. عندما تم اعتقال يسوع، وجرد واحد ممن كانوا معه سيفه، وضرب عبد عظيم الكهنة وصلم أذنه اليمنى، لمس الرب أذن المضروب فشفاها وقال للذي ضرب: أرجع سيفك الى غمده، فكل من أخذ بالسيف، بالسيف يؤخذ (متى26: 51-52، لو 51:22). فالحرب تولد الحرب، والقتل القتل، والنزاع النزاع، والدمار الدمار.
إننا باسم هذه الثقافة الانجيلية، طالبنا ونطالب وتطالبون الدولة بلم السلاح المتفلت، وضبط كل سلاح تحت إِمرة الجيش والقرار السياسي. فإعلان الحرب والسلام يعود إلى قرار مجلس الوزراء بثلثي الأصوات، بموجب المادة 65 من الدستور، ولا يحق ذلك لأحد سواه، من أجل الحفاظ على أرواح المواطنين والسلم الاهلي والأمن الداخلي. ففي كل أسبوع تطالعنا مأساة قتل رخيص، فيما كلام الله واضح وصريح ومباشر بوصيته السابعة التي لا تقبل اللبس أو التأويل: لا تقتل (خر 13:20).
وفيما نأسف لوقوع قتيلين وجرحى في خلدة بجوار العاصمة بيروت بنتيجة اشتباكات ميليشيوية وعشائرية ومذهبية، نود تقديم التعازي لعائلات القتيلين، مذكرين أيضا وأيضا بأن الله وحده هو سيد الحياة والموت، وان الانسان، أيا يكن لونه أو دينه أو عرقه، هو مخلوق على صورة الله، ومدعوٌ لاستكمالها والمحافظة عليها، وهو مفتدى بدم المسيح الفادي الالهي، ويريده الله سعيدا في حياة الدنيا والآخرة. بين السلام العادل والحرب، الأولوية والأفضلية للسلام.
5. إن السلاح الواحد، في عهدة الدولة، هو مكوِن ثالت متكامل، في نظام الحياد الناشط، مع المكوِن الأول وهو عدم دخول لبنان قطعيا في أحلاف ومحاور وصراعات سياسية وحروب اقليميا ودوليا، وامتناع أيِ دولة عن التدخل بشؤونه والهيمنة عليه أو اجتياحه أو استخدام اراضيه لأغراض عسكرية؛ ومع المكوِن الثاني وهو التزام لبنان برسالته في الدفاع عن حقوق الانسان، وحرية الشعوب ولاسيما العربية منها، وفي القيام بمبادرات المصالحة والتقارب وحل النزاعات، وفي توفير الجو لحوار الأديان والثقافات والحضارات والعيش المشترك.
6. لم يكن بناة لبنان يتصورون الحالة التي وصلت إليها الدولة بتفككها وفسادها وانحرافها عن جوهرها وفلسفة وجودها. فالمكرم البطريرك الياس الحويك الذي قاد نضال القضية اللبنانية، أراد لبنان دولة يعيش فيها مسيحيو الشرق على قدم المساواة مع المسلمين؛ دولة، هي الأولى في الشرق، تحل الوطنية السياسية محل الوطنية الدينية، ما يعني دولة مدنية تفصل بين الدين والدولة؛ وأراده وطنا قابلا للحياة بأرضه ومرافقه من أجل تأمين أمنه الغذائي وازدهاره التجاري. ولهذه الغاية استرد للبنان حدوده التاريخية والطبيعية التي كانت السلطنة العثمانية قد سلختها عنه، وأقامت حصارا عليه برا وبحرا على يد جمال باشا المعروف بالسفاح، فكانت مجاعة سنة 1914 التي أماتت جوعا مئتي ألف لبناني.
7. ولكن من موت هؤلاء المواطنين الأبرياء، ولدت دولة لبنان الكبير، كما السنبلة تنبت وتثمر من حبة القمح التي تموت في الأرض (راجع يو24:12). ونحن نؤمن أن من آلام الشعب الجائع، ومن ضحايا انفجار مرفأ بيروت في 4 آب الحالي، وما أسفر عنه من موتى ومفقودين وجرحى ومنكوبين ومشردين من دون مأوى، تولد دولة جديدة بنظامها الحيادي الناشط الذي نعمل في سبيل تحقيقه مع اللبنانيين المحبين للبنان وللشعب. دولة جديدة بوجوه مسؤولين جدد يتصفون بالاستقلالية والنزاهة والخبرة السياسية، غير ملطخة أيديهم بوباء الفساد؛ دولة يسعى في سبيل بنائها الشبان والشابات الذين قطعوا عهدا على نفوسهم بأن يظلوا على أرض الوطن ليبنوا دولة حديثة منسجمة مع الدستور والميثاق الوطني والدور البناء في المنطقة، ومع رأسمالها الحضاري والثقافي والعلمي والابداعي. نأمل بأن يطل فجر هذه الدولة بحكومة طوارئ مصغرة مع ما يلزمها من صلاحيات لتنهض الدولة من حضيض بؤسها الاقتصادي والمالي والاجتماعي وتحقق الاصلاحات المطلوبة.
8. إن البطريركية المارونية ناضلت وبلغت إلى ولادة دولة لبنان الكبير في أول أيلول 1920، وناضلت حتى تحقيق استقلاله الناجز العام 1943، مع ميثاقه الوطني المتجدد في اتفاق الطائف، واليوم تسعى جاهدة إلى تأمين استقراره بإقرار نظام الحياد الناشط. ولن تقبل بعد الآن بتسويات ومساومات على حساب جوهر الكيان اللبناني. فهي والشعب واحد في رفض كل ما هو مشبوه، وكل ما لا يحفظ رسالة لبنان ودوره وهويته في هذه المنطقة من العالم.
9. نصلي إلى الله كي يستجيب دموع المتألمين، فنرفع إليه المجد والشكر والتسبيح، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد. آمين”.