ومن خلْف الستارة التي أُقفِلت على استشاراتٍ مُعَلَّبة مرّت بأكثر من «طريق مختصر» داخلي وخارجي وصولاً إلى التكليف الذي حُسم منذ عصر الأحد لأديب، أطلّت الأسئلة الصعبة التي لن يمرّ وقتٌ طويل قبل أن تتبلور الإجابات عنها خصوصاً لجهة:
* هل أن «بساط الريح» الذي وَصَلَ عليه الرئيس المكلّف وليد «حياكةٍ» فرنسية – إيرانية فقط قد تسمح باستكمال مسار التأليف وتشكيل حكومة الإصلاحات التوافقية التي يُراد لها أن تسير «بين سواتر» الصراع الأميركي – الإيراني خصوصاً و«شراء الوقت الذهبي» للبنان بانتظارِ جلاء صورة السباق إلى البيت الأبيض؟
* أم أن وراء هذه الحبْكةِ قطبة مَخْفية تجعلها وبـ «قبة باط» أميركية تستنسخ دور حكومة الرئيس نجيب ميقاتي في 2005 التي شكّلتْ على وقع ارتدادات زلزال اغتيال الرئيس رفيق الحريري جسرَ انتقالٍ بالبلاد على متن الانتخاباتِ النيابية حينها من ضفةِ الانتظام تحت الوصاية السورية إلى رحاب مرحلة سياسية جديدة وإن بقيت محكومة بالاستقطاب الحاد بين فريقيْ 8 و14 آذار أقله حتى تسوية 2016، ولكن هذه المرة إلى مرحلة «التسوية الكبرى» في المنطقة حين تدقّ ساعتَها؟
وتميل أوساطٌ سياسية في بيروت إلى السيناريو الأوّل في تقديرها للمسار الذي أفضى إلى «إسقاط» اسم أديب الذي جاء على طريقة «إخراج الأرنب» وهذه المرة من جيْب فرنسا عبر هنْدسةٍ أوردتْها تقارير متقاطعة في بيروت تحدثت عن دورٍ لرئيس الاستخبارات الخارجية الفرنسية برنار ايمييه في استيلاد الرئيس المكلف بمواكبةٍ من أحد اللصيقين برئيس وزراء لبناني سابق قبل أن يتولى ماكرون تسويق الاسم لبنانياً وإجرائه شخصياً اتصالاتٍ رئاسية وبقادة أحزاب للحضّ على تسمية سفير لبنان لدى برلين (من 2013) والمتزوّج من فرنسية والذي أُعطي الضوء الأخضر الداخلي الصريح لـ «تعيينه» مع تزكيته من رؤساء الحكومة السابقين مساء الأحد.
وتشير هذه الدوائر إلى أن طبيعة الحكومة الجديدة التي يُراد لها أن تكون «منزوعة الدَسَم سياسياً»، في الشكل كما في وظيفتها العابرة لجوهر المشكلة السياسية للبنان مع الخارج والمتمثل بوضعية «حزب الله» وسلاحه خارج الدولة وأدواره في الساحات اللاهبة، يؤكد البُعد الانتقالي لهذه الحكومة الذي تسعى باريس لجعْلها بمثابة حبلٍ «يلْتقط» الوضعَ اللبناني في منتصف الهاوية التي سَقَط فيها بما يحول دول الارتطام الكبير بالقعر «القاتِل»، وإن كان عنوان الإصلاحات البنيوية والدعوة إلى النأي بالنفس عن صراعات المنطقة الذي ذكّرت به مجموعة الدعم الدولية للبنان بعيد انكشاف التكليف المحسوم لأديب قد يشكّل بداية تغيير السلوك السياسي الذي تحدّثت عنه باريس وتريد واشنطن «جرعات» أكبر منه في ما خص مسألة «حزب الله» بالدرجة الأولى.
وإذ حملتْ أولى ساعات ما بعد تكليف أديب غيابَ أي موقف أميركي أو عربي مرحّب، في موازاة كلام صحيفة «نيويورك تايمز» عن أن الرئيس المكلف حظي بدعم تيار الرئيس سعد الحريري وتيار الرئيس ميشال عون و«حزب الله»، كانت القراءات الداخلية للتكليف غير المألوف تتوقّف عند «نقاط ثمينة» راكَمها الائتلاف الحاكِمُ وبينها:
* جرّ رؤساء الحكومة السابقين إلى تسمية شخصية ليسير بها أركان السلطة وهو ما كان الأخيرون يرفضونه لكونه «قفز فوق الأصول الدستورية واتفاق الطائف».
* نجاح «حزب الله» مجدّداً في إيصال مرشّح وهذه المرة ليس عبر استيلاده في كنفه بل من خلال جرّ الآخَرين إلى تسميته وفق «لائحة الفيتوات» التي فَرَضها على الجميع (خصوصاً حول نواف سلام ومحمد بعاصيري) مع تحييد كامل لأي تأثيرات لحُكْم المحكمة الدولية في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري كما للوقْع الدراماتيكي لـ «بيروتشيما» على الائتلاف الحاكم.
* تكرار رئيس «التيار الحر» جبران باسيل النجاح في استبعاد الحريري، والأهمّ استدراج الأخير ولو بطريقة غير مباشرة إلى تجديد التسوية مع عهد الرئيس عون، في موازاة الاستفادة الكبيرة للحزب التي سيشكّلها الغطاء السني للحكومة بحال اكتمل نصاب تأليفها وجرُّ هذا المكوّن وبعض خصومه إلى «شراكة» في حمل «كرة نار» الانهيار التي أحرقت يدي حكومة حسان دياب السابقة وعمّقت الحصار حول الحزب.
واستوقف الدوائر نفسها في يوم الاستشارات (نال فيها إضافة إلى أديب، السفير والقاضي نواف سلام 16 صوتاً و7 لا تسمية وصوت لكل من ريا الحسن والفضل شلق) تَرَدُّد كتلة الزعيم الدرزي وليد جنبلاط التي ورغم تسميتها أديب إلا أنها أبدت «عدم حماسة» للتسوية التي أفضت إلى هذا الخيار مع تشكيك بقدرتها على تحقيق المرجو لجهة مقاربة جدية للإصلاحات وتغيير الذهنية لفريق العهد خصوصاً، فيما ذهب حزب «القوات اللبنانية» إلى تسمية سلام رغم اتصال ماكرون برئيسه سمير جعجع «لأننا نعلم استقلالية سلام ونظرته السيادية وعلاقاته الدولية، وحان الوقت لأن يكون مَن يكلّف هو المسؤول، وليس واجهة لغيره او لتسويات اللحظة الأخيرة».
وفي حين اعتبرت هذه الدوائر أن زيارة المسؤول الأميركي ديفيد شينكر لبيروت غداً ستحمل الإشارات القاطعة حيال موقف واشنطن من تكليف أديب وما بعده، وسط اقتناعٍ بأن «قبضة» العقوبات لن تتراجع ما لم تتألف حكومة مستقلة وحيادية لا تأثير فيها لـ «حزب الله» وحلفائه، رأت أن المحكّ الفعلي سيكون مع بدء تركيب «بازل» الحكومة وشكلها.
وتحدثت الدوائر عن معطيات أشارت إلى أن التكليف الذي أمْلاه توقيت زيارة ماكرون الذي يشارك اليوم في الاحتفال المقتضب بمئوية لبنان الكبير لم يترافق مع تفاهم على التأليف الذي يفترض أن يُكمل الرئيس الفرنسي خلال لقاءاته في بيروت (يغادرها غداً) الضغط في اتجاه أن يكون سريعاً ووفق «البروفايل» الذي حدده لتشكيلة «تحيد فيها الأحزاب جانباً»، وهو ما سيتضح في الساعات المقبلة إمكان أن يسلّم به أفرقاء الداخل خصوصاً الائتلاف الحاكم الذي تردد أنه يميل إلى حكومة تكنو – سياسية ولو بمستوى حزبي شبه «خفي»، وسط اعتبار البعض أن قيادة باريس للملف الحكومي وإمساك رؤساء الحكومة السابقين بيد أديب يمكن ان يشكلا عنصر توازن كافياً لمنْع تكرار تجربة حكومة دياب (ومحاصصاتها) التي استقالت في 10 أغسطس الماضي، وإن كانت نتيجته المحتملة «تعليق» التأليف.
وكان لافتاً أمس في «اول الكلام» لأديب بعد تكليفه إعطائه إشاراتٍ إلى أنه يريد «العمل وليس الكلام وإعطاء وعود»، متفادياً الجزم حيال شكل حكومته التي طالبه مواطنون خلال زيارة تفقدية قام بها عقب تسميته لمرفأ بيروت ومنطقتي الجميزة ومار مخايل بأن تكون بلا سياسيين فكان جوابه «إن شاء الله».
علماً أن أوساطاً سياسية اعتبرت أن هذه المحطة الميدانية أراد منها الرئيس المكلف الحصول على بداية شرعية شعبية اصطدمت باعتراضاتٍ من عدد من المتظاهرين الذين أعلنوا أمامه رفْض تسميته هاتفين «ثوار، أحرار، ح نكمل المشوار»، في موازاة انتقادات للتسوية التي أفضت إلى «معاودة تجديد الطبقة السياسية لنفسها».وفي بيان مقتضب جداً وعَكَس منحى عملانياً يريد أديب لإعطائه لمهمته، قال الرئيس المكلف من قصر بعبدا قبل قيامه بعد الظهر بالجولة التقليدية على رؤساء الحكومة السابقين على أن يُجْري الاستشارات غير الملزمة للتأليف مع الكتل البرلمانية غداً: «في هذه الظروف العصيبة لا وقت للكلام والوعود والتمنيات. الوقت للعمل بكل قوة بتعاون الجميع من أجل تعافي وطننا واستعادة شعبنا الأمل بغد أفضل، وبإذن الله سنوفق في هذه المهمة لاختيار فريق عمل وزاري متجانس من أصحاب الكفاءة والاختصاص وننطلق سريعاً في إجراء الإصلاحات الأساسية وبسرعة».
وأضاف ان «الفرصة أمام بلدنا ضيقة والمهمة التي قبلتُها هي بناء على ان كل القوى السياسية تدرك ذلك وتفهم ضرورة تشكيل الحكومة في فترة قياسية، والبدء بتنفيذ الإصلاحات فوراً من مدخل الاتفاق مع صندوق النقد الدولي».