لن تشبه الاستشارات النيابية لتأليف الحكومة اليوم أيّ استشارات أخرى منذ انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية. لا بنسخة حكومتي سعد الحريري حين “طافت” حقائب غبّ الطلب وتوزّعت على 30 وزيراً وفق التقسيمة التنفيعية إياها، ولا نسخة حكومة حسان دياب التي “زمّت” لعشرين وزيراً، وكانت من أصحاب الوجوه الجديدة لكن المُسيطر عليها حزبياً.
ولا أيضاً في المناخات الإقليمية الدولية التي رافقت تشكيل ثلاث حكومات توّجت الانزلاق المريع للعهد صوب الهاوية.
حكومة مصطفى أديب ستشكّل امتداداً لـ”الأمر” الفرنسي بـ”صناعة” رئيس حكومة وحكومة بمواصفات قاسية جداً على أولياء اللعبة السياسية، بالتزامن مع إقرار رزمة إصلاحات وإجراءات بدا “الكرباج” الاوروبي السبيل الوحيد للسير بها مع التلويح المنظّم بعقوبات على سياسيين لبنانيين وحجز أموالهم في الخارج.
يقول أحد المعنيين المباشرين بمسار تأليف الحكومة: “لو تُرِك الأمر لهمّة أفرقاء الداخل، ولو ألغيت أو أجّلت زيارة إيمانويل ماكرون الى لبنان، لكان مصطفى أديب لا يزال يتابع معاملات اللبنانيين في ألمانيا، ويحضر المناسبات الدبلوماسية، ولكانت القوى السياسية تخوض معركة تقاتل جديدة على الحصص”.
ويضيف قائلاً: “الفرنسيون حاضرون اليوم بقوة وفي التفاصيل. لكن بالطبع لن يكون لهم، مع مغادرة ماكرون بيروت اليوم، ممثّلهم على طاولة التفاوض حول أعضاء الحكومة.
أغلب الظنّ أنّ “الطَبع” سيغلب “التطبّع” مع المبادرة الفرنسية. وقد نشهد جولات متجدّدة من شدّ الشعر، ورفع المتاريس حول الأسماء والحصص. لكنّ الفارق أنّ ثمّة من يحمل الصفّارة، وقد يرفع البطاقة الحمراء. لا كبير أمام الفرنسيين”.
لا توحي شخصية سفير لبنان السابق في ألمانيا أنّه من طينة من يُفاوِض من مَوقع صَلب وحازم
الرجل، وفق عارفيه، من محبّي نادي “المسايرة وتجنّب الصدام وتوسيع شبكة الـ”PR”، وتسكنه “شخصية الموظّف”. سيسهّل هذا الأمر المهمّة على المعنيين بتأليف الحكومة.
هؤلاء مصيبتهم “مصيبة”. همّ يختبرون للمرّة الأولى منذ نهاية حقبة الوصاية السورية نوعاً متجدّداً من الوصاية التي ترجمت في أكثر من محطة وموقف إلى درجة الإهانة المباشرة. لكنّ الطقم الحاكم، ورغم الحرّ القاتل، يراها “عم بتشتّي”!
مع ذلك، لا يتوقّع مطلعون أن تستغرق ولادة الحكومة شهراً كاملاً كما حكومة حسان دياب. لكن السؤال الأكثر إلحاحاً يتركّز حول مدى التزام أولياء التأليف بدفتر الشروط الفرنسية بالتوصّل إلى حكومة نموذجية لمهام محدّدة يغيب عنها الولاء السياسي بالكامل والتبعية المفضوحة. وتحضر معايير ليس فقط الاختصاص، بل الخبرة في الاختصاص والكفاءة والحيادية عن صراعات الداخل.
يشجّع ماكرون وفريق عمله خيار الحكومة المصغّرة بمهام محدّدة. وفق المعلومات، لا أسماء ستطرح من الجانب الفرنسي. وثمّة تركيز كبير على حقائب الطاقة والمال والاتصالات بوصفها المدخل الأساس للورشة الإصلاحية، من دون إغفال التركيز على وزارات أخرى كالزراعة والصناعة والأشغال.
ويُظهِر الفرنسيون تشدّداً ليس حيال منطق اعتماد المداورة في الحقائب، بل التخلّي عن “تطويب” بعض الحقائب لصالح قوى سياسية محدّدة، قد لا تأتي بالبروفيل المطلوب للمرحلة.
وبهذا المعنى، يقول العارفون: إنّ ماكرون شخصياً كرّر أكثر من مرة اقتناعه بأنّ المطلوب “وجوه قادرة وكفوءة بمعزل عن الانتماء السياسي أو الطائفة”.
وفي هذا السياق، تفيد معلومات أنّ الاسم الذي بات شبه محسوم لتعيينه وزيراً لحقيبة المال ويشكّل “عيّنة” عن الكادر المطلوب في الحكومة الجديدة، واحد من أعضاء لجنة التفاوض هو طلال فيصل سلمان، عضو لجنة التفاوض مع صندوق النقد الدولي الذي كان قدّم استقالته قبل أيّام من منصبه في وزارة المال كمستشار.
ويحظى الشاب الثلاثيني برضى صندوق النقد، وهو يعتبر من كادر الاختصاصيين في الشأن المالي، وقريب من عين التينة. مع العلم، أنّه في الكواليس طرح مجدّداً اسم مدير عام المالية السابق آلان بيفاني الذي قدّم استقالته قبل أشهر، لكنّه مرفوض من عين التينة ومن قوى سياسية أخرى.
إلا أنّ رواية أخرى تحدثت عن أنّ وزارة المالية لن تكون لأحد قريب من حركة أمل أو رئيسها، وقد طرح هذا الأمر بين الرئيسين برّي والحريري سابقاً، ووافق برّي في حينه على أنّ لرئيس الحكومة الحق في اختيار وزير المال في حكومته في مثل هذه الظروف. والأرجح حسب جهات مطلّعة عى موقف الرئيس المكلّف أنّه سيطالب بالصلاحية نفسها التي كان الحريري قد حصل عليها.
تؤكد المعلومات أنّ السِّيَر الذاتية للوزراء ستكون للمرّة الأولى محطّ “رقابة دولية”، خصوصاً أنّ الحكومة السابقة ضمّت عدّة أسماء دون المستوى، وأحد هذه الاسماء “شكّل فضيحة”.
كما أنّ الحكومة، وفق العارفين، ستضمّ حضوراً لأسماء وزراء مُسيّسين لكن غير تقليديين أو مُجرّبين مع رغبة فرنسية بتمثيل المجتمع المدني أو رموز الثورة.
لذلك يجزم مطلعون أنّ مهلة الثلاثة أشهر التي تحدّث عنها ماكرون تبدأ من لحظة التكليف وليس التأليف. إذ يسلّم بأنّ الوصول إلى فريق عمل منسجم وكفء يجب ألا يستغرق أكثر من بضعة أيام، وهو ضغط آخر يمارسه الرئيس الفرنسي على القوى السياسية.
مع العلم أنّ الرسالة الأكثر قساوة لماكرون تجلّت في ما أدلى به إلى صحيفة “politico ” معتبراً أنّ “الأشهر الثلاثة المقبلة ستكون أساسية من أجل إحداث تغيير حقيقي. وإذا لم يحدث ذلك، فسأقوم بتغيير مساري، بالإضافة إلى إتخاذ إجراءات عقابية تتراوح من حجب خطة الإنقاذ المالية إلى فرض عقوبات على الطبقة الحاكمة”، متحدّثاً عن “الفرصة الأخيرة لهذا النظام”، وحاشراً الجميع في زاوية “الانتخابات النيابية المبكرة في غضون 6 إلى 12 شهراً”.
في حين أعلنت دوائر الإليزيه أنّ ماكرون سيعود في كانون الأوّل المقبل إلى لبنان في زيارة ثالثة
ويؤكد مطلعون “أنّ أقصى ما سيُسمح للقوى الأساسية البارزة أن تطرحه هو أسماء متعدّدة للحقيبة المعيّنة، مع التخلّي عن سياسة الفرض والمناورة ووضع الفيتوات، على أن يكون خيار الحسم محصوراً بين رئيسيّ الجمهورية والحكومة وفق مقتضيات الدستور”.
ويقول هؤلاء: “لن يكون هناك تساهل برؤية جبران باسيل يقفز بين المقرّات، ويفرض شروطه، ولا رؤية ممثّلي حزب الله يضعون الفيتوات، ولا مندوبين يزكّون أسماءً من جانب الرئيس نبيه بري لا تتوافق مع المعايير المطلوبة”.
هكذا تبدأ اليوم الاستشارات النيابية غير الملزمة لتأليف الحكومة في المقرّ الرئاسي في عين التنية، بسبب تعذّر إتمامها في مجلس النواب نتيجة الأضرار التي تعرّض لها جرّاء انفجار بيروت.
وهو وضع استثنائي يشبه “وضعية” الرئيس المكلّف نفسه، الذي يقيم منذ وصوله إلى لبنان، مؤقتاً، في فندق ضمن بيروت، وبعدها سينتقل إلى شقة في كليمنصو تعود بالأساس ملكيتها لرئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي، وكان يشغلها لفترة أحد مستشاري الأخير، فيما لا يُعرف بعد إذا كان جار جنبلاط سينتقل لاحقاً للإقامة في السراي كما فعل حسان دياب.