سؤالٌ محشوّ بفائضٍ من الغضب والريبة، طفا أمس على «السحابة البركانية» التي جثمتْ بسوادها فوق العاصمة اللبنانية التي لم تلملم بعد أشلاء أبنائها ومَبانيها التي التهمها «بيروتشيما» في 4 أغسطس الماضي لتجد نفسها في 10 سبتمبر على موعدٍ مع وليمة نارٍ في هشيمِ مرفئها وعلى مَسرح الجريمة عيْنها التي كانت خطفتْ قبل 37 يوماً 192 شخصاً وجرحتْ أكثر من 6500 آخَرين وشرّدت نحو 300 ألف وتَسَبَّبتْ بدمارٍ رهيب.
في 4 أغسطس كان القاتِل الذي حوّل بيروت «محرقةَ العصر» اسمُه العنبر رقم 12 وصندوقه الأسود الذي ضمّ «خليطاً سرياً» رأسُ الجبلِ المتفجّر فيه نيترات الأمونيوم وصاعقُها المفترض «عمليةُ تلحيم»… وفي 10 سبتمبر كان اسمُ المُجْرم الذي خَنَقَ العاصمةَ ولفّ عُنُقَها بغيمةٍ سوداء عملاقةٍ، مستودعٌ في السوق الحُرّة في المرفأ قيل إنه يحتوي على زيوتٍ وإطارات كاوتشوك ومستحضراتِ تجميلٍ أَشْعَلَتْه شرارةٌ مجهولةُ باقي الهوية أشاعتْ تسريباتٌ سوريالية أنها نجمتْ أيضاً عن «عمليةِ تلحيم».
وفي الحاليْن بدا القاتِل مُتَخَفّياً إما بثوبِ «لعنةٍ فتّاكة» قبضتْ على المرفأ كأنها تستهدفُ اغتيالَ بيروت، واسمُها الإهمال وسوء الإدارة والفساد وتَحَلُّل الدولة، وإما بأيدٍ خفية، عدوانية أو تخريبية عن سابق تَصَوُّر وتصميم كأنّها تنفّذ إعداماً بحق «ست الدنيا»، مرّةً رمياً بأطنان نيترات الأمونيوم وربما بما هو أعظم، ومرّة أخرى بـ «حبل مشنقة» من دخانٍ مميتٍ أشبه بالحفر عميقاً في الجُرح المفتوح لعاصمةٍ لم تُقْفَل مقابرُها بعد ولا جفّت دماءُ أبنائها ودموع أهلها ولا اندملتْ ندوبُ بيوتاتها.
ولم تكن فِرَقُ الإطفاء أخمدتْ بعد الحريقَ الذي أنْذَر بأن يمتدّ إلى كل السوق الحُرة واستوجب تأهُّباً لـ «بقايا» المؤسسات العاملة في الدولة وصولاً إلى التئامِ المجلس الأعلى للدفاع برئاسة رئيس الجمهورية ميشال عون عند السابعة مساءً، حتى استعرتْ أبعادٌ ثلاثية لهذا التطوّر الذي حَجَبَ لهيبُه كل العناوين الأخرى، الداخلية التي يختصرها ملف تشكيل الحكومة الجديدة بامتداداته الإقليمية – الدولية، كما الخارجية التي استعادتْ وهجَها مع إطلاق واشنطن سلسلة عقوباتٍ بحق سياسيين رفيعي المستوى من حلفاء «حزب الله» بدت من ضمن لائحة الـ Most wanted التي ستكرّ سبحتها تباعاً.
وهذه الأبعاد هي:
* ما ظهّره وقوع الحريق الهائل، الذي رُصد عن مسافات بعيدة جداً واحتلّ دخانه سماء لبنان، في البقعة نفسها التي «انفجرت» قبل 37 يوماً، من أن مسرح جريمة 4 أغسطس متروكٌ و«سائبٌ» رغم استمرار التحقيقات التي يشارك فيها خبراء من أكثر من دولة، ومواصلة القضاء عمله لتحديد ملابسات التفجير الهيروشيمي والمسؤوليات عنه في ظل توقيفاتٍ إدارية وأمنية واستماعٍ متوالٍ لمسؤولين كان آخِرهم أمس وزير الأشغال في حكومة تصريف الأعمال ميشال نجار والمدير العام لأمن الدولة اللواء طوني صليبا.
ولم يكن عابِراً ما رافق «طوفان النار» من سيناريوهات وتعليقاتٍ لم تخْلُ من كوميديا سوداء، بعضها سأل ساخراً «هل ما جرى هو في إطار تمثيل جريمة 4 أغسطس»، وبعضها الآخَر لم يتوانَ عن القول استهزاءً بأن «هكذا يحصل مسْح مسرح الجريمة في لبنان»، في موازاة طغيان فرضية العبث بالأدلّة وطمْسها بالنار و«حرق وإخفاء حقيقة 4 أغسطس الأسود».
* البُعد النفسي والمعنوي لمشهديةِ الحريق الكبير، الذي استحْضر بعض مكوّنات تسونامي الدم والدمار قبل 37 يوماً، عبر بعض الانفجارات الصغيرة التي تَزامَنَتْ مع كرة النار المتطايرة، ما وَضَع عائلات ضحايا تفجير 4 أغسطس والجرحى مجدداً وجهاً لوجه أمام الكابوس الذي لم يُطْبِق جفنيْه أصلاً، في موازاة إطباق الرعب على نفوس سكان المناطق المجاورة للمرفأ وعموم لبنان الذين كانت أيديهم على قلوبهم خشيةَ تكرار «بيروتشيما».
وجاء معبّراً الهلعُ الذي أصاب المواطنين في الشوارع المحيطة بالمرفأ، الذي تحوّل ميناءً ترسو فيه الكوارث، حيث شوهدت سياراتٌ تغادر على عجل بعيد اندلاع الحريق (قرابة الثانية من بعد الظهر) ومحالٌ تُقفل كأن البلاد في حال طوارئ، وناسٌ حائرون: هل نقفل نوافذ منازلنا تَجَنُّباً لسموم الغيمة الملعونة، أم نفتحها تفادياً لانفجارٍ يحوّل الزجاج سكاكين قاتلة؟
* أما البُعد الثالث فتمثّل في ما كرّستْه الاستجابةُ الميدانية للحريق الضخم من غياب مقومّات القدرة على إدارة الكوارث وفق بروتوكولات جاهزة، وصولاً إلى الدلالاتِ الخطرة والمؤلمة لـ «استغاثةِ» الدفاع المدني «نريد المياه» لعمليات الإطفاء، كما لمناشدته السلطات في المرفأ «تحديد طبيعة المواد الموجودة في المستودعات للمحافظة على سلامة العناصر»، وذلك بعدما كان فوج إطفاء بيروت فُجع يوم 4 أغسطس بخسارة 10 من عناصره وُضعوا في فم الموت حين أُرسلوا في مهمة انتحارية على طريقة one way ticket لعدم معرفتهم بالمواد «المختبئة» في العنبر رقم 12.
وشكّلت مسارَعةُ فرنسا لإبداء الاستعداد للمساعدة في إخماد الحريق إذا تطلّب الأمر تدخُّلها وإبداء دول أخرى مثل كندا صدمتها وحزنها لوقوع حريقٍ جديد في المرفأ، عامِلاً عَكَسَ من جهةٍ ارتياحاً لاستمرارِ العين الدولية على لبنان، ومن جهة أخرى تعميق صورة «بلاد الأرز» كدولةٍ لم تنجح بعد 11 يوماً على تكليفِ رئيسٍ جديدٍ تشكيلَ حكومةِ رفْعِ أنقاضِ بيروت ورفْعِ تحدي الإصلاح الشاق في إحداث اختراقٍ يُعتدّ به، رغم «مطاردة» باريس للطبقة السياسية على مدار الساعة عبر خليةِ أزمةٍ شكّلها الرئيس ايمانويل ماكرون الذي رمى بثقْله من خلال مبادرة «الفرصة الأخيرة» التي تسير جنباً إلى جنب مع عصا العقوبات الأميركية التي أصابتْ قبل يومين الوزيرين السابقين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس اللذين يمثلان حليفيْن رئيسيْين لـ «حزب الله».
وفيما تَراجَع أمس عنوان تشكيل «حكومة المَهمة» (خلال المهلة الفرنسية أي 15 يوماً تنتهي الثلاثاء المقبل، ووفق بروفايل ماكرون لحكومة اختصاصيين تحظى بتوافُق سياسي) أمام هول السحابة المسمومة، استوقف أوساطاً سياسية «المَهمة» التي اضطلع بها المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم في باريس موفداً من عون حيث التقى عضويْ «المفرزة الديبلوماسية» المكلفة متابعة الملف اللبناني أي السفيريْن برنار ايمييه وايمانويل بون وبحث معهما في مسار التأليف وتعقيداته.
ولاحظتْ الأوساط أن زيارة إبراهيم المعلَنة بدت في سياق محاولة جسّ نبض باريس face to face حيال حقيقة موقفها وموقعها من المعايير التي يتبعها الرئيس المكلف مصطفى أديب في تشكيل حكومته والتي تلقى اعتراضاتٍ من مختلف أطراف الائتلاف الحاكم الذين يرفضون خصوصاً اختيار أديب فريقَه الحكومي بالأسماء وفق قاعدة الاختصاصيين الذين لا ولاء سياسياً مباشراً لهم، ناهيك عن تَشَدُّد المكوّن الشيعي وخصوصاً بعد العقوبات على وزير المال السابق علي حسن خليل في التمسك بهذه الحقيبة بما يكسر مبدأ المداورة كمنطلقٍ إصلاحي.
وكان لافتاً ما سُرِّب عن أجواء لقاءات إبرهيم في باريس وتحديداً لجهة أنه أبلغ إلى عون اهتمام فرنسا بمتابعة ما اتّفق عليه خلال زيارة ماكرون «وخصوصاً لجهة الإسراع في تشكيل الحكومة التي يجب أن تضم اختصاصيين في مجالاتهم لا يلقون معارضة من ممثّلي الأحزاب»، وهو ما ترَك علامات استفهام حول إذا كان المقصود فتْح باب أمام مخْرجٍ يجعل الأحزاب صاحبة «فيتو» على اقتراحات يضعها الرئيس المكلف بما يحول دون اعتكافه أو اعتذاره”.