وأضحى حزب الله وحيداً. ما تجنّبه الحزب على مدى خمسة عشر عاماً، شاءت الظروف أن يعود إليه في خواتيم عهد حليفه الأساسي والاستراتيجي. حليف قدّم له الحزب كلّ شيء في سبيل مبادلته بالغطاء وبالالتفاف على محاولات عزله وعلى عدم مقبوليته هو وسلاحه. لم يبقَ للحزب غير نفسه. ما كان سيحصل في العام 2005، ها هو يحصل اليوم. استخدم حزب الله التطوّرات الإقليمية والدولية ما بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري للحفاظ على دوره ووجوده ووراثة دور الجيش السوري في لبنان. وقد نجح في أربع محطات، هي الآتية:
المحطة الأولى: من خلال التحالف الرباعي في انتخابات العام 2005، التي أمن بها جانب قوى 14 آذار.
المحطة الثانية: عبر التحالف مع التيار الوطني الحرّ وزعيمه ميشال عون في العام 2006، وما أنتجه تحالف “ورقة التفاهم” من نتائج سياسية كرّسها الحزب في 7 أيار 2008 يوم اجتاح بيروت وفرض قواعد جديدة للمسار السياسي، تكرّس في اتفاق الدوحة.
المحطة الثالثة: في الانقلاب على حكومة سعد الحريري عام 2011، والانقلاب الإيراني على معادلة (س س).
المحطة الرابعة: تكريس شروط حزب الله في التسوية الرئاسية عام 2016 وانتخاب حليفه رئيساً للجمهورية، وتحكّمه في كيفية تشكيل الحكومات مع التمسّك بالثلث المعطّل في كلّ الحكومات المتعاقبة، والفوز بالأكثرية النيابية بعد إقرار قانون انتخابي مفصّل على قياسه وقياس حلفائه.
الموقف الذي أطلقه ميشال عون بشأن تشكيل الحكومة وتأكيده أن الدستور لا ينصّ على إعطاء حقيبة وزارة المالية للطائفة الشيعية، سيسهم في إحراج حزب الله أكثر
ها هي تنهار كلّ هذه المحطات وما حقّقته في سنة واحدة. حتّى رئيس الجمهورية النصير اللصيق للحزب لم يعد قادراً على حماية الانتصار للحزب. فالعهد في خواتيمه ينذر بانهيارات متلاحقة، ويتحدث عن “جهنّم” الآتية على لبنان. في حين أنّ سيف العقوبات قابل لفكّ أيّ عقدة التحام بين التيار الوطني الحرّ والحزب. درّة الضغوط وعنوانها أنّ حزب الله لن يكون قادراً على فرض رئيس الجمهورية الذي يريده في لبنان بعد انتهاء “العهد القوي”. إن لم يكن بفعل قانون “أوفاك” فبفعل قانون “قيصر” وربما “ماغنتسكي”. وعلى جبران باسيل أن يعيد حساباته حرصاً على نفسه وليس على عهد عمّه.
الموقف الذي أطلقه ميشال عون بشأن تشكيل الحكومة وتأكيده أن الدستور لا ينصّ على إعطاء حقيبة وزارة المالية للطائفة الشيعية، سيسهم في إحراج حزب الله أكثر. حتّى حركة أمل لن تكون قادرة على الاستمرار بالتماهي مع الحزب، والرئيس نبيه بري لطالما كان يمثّل ضمانة الجميع وضابط إيقاع التوازن بين مختلف الأطراف المتصارعة. وستكون للعقوبات آثار واضحة في المرحلة اللاحقة. إذ لم تعد حركة أمل تملك ترف عدم مواجهة الاستحقاق، فإما أن تكون الطرف المتمايز عن الحزب وأن تعود إلى ثوابت الإمام موسى الصدر، وإما أن تؤخذ بجريرة حزب الله.
بعد فرض العقوبات على وزير المال السابق علي حسن خليل، تؤكد المعلومات أنّ بري أرسل أحد المقرّبين منه إلى السفارة الأميركية، في محاولة للبحث عن حلول سياسية وتجنّب المزيد من العقوبات، وهذا جانب أساسي من مداولات زيارة وليد جنبلاط إلى باريس. لم يكن برّي في وارد التشبّث بموقفه إلى هذا الحدّ، لكنّ المعلومات تؤكّد أنّ من اتخذ قرار التصعيد والتمسك بوزارة المالية، كان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله شخصياً.
هناك استشعار عام بأنّ حزب الله يشكّل خطراً على لبنان والصيغة، والتماهي مع مشروعه سيسهم في إنهاء الصيغة اللبنانية
ولا يمكن إبعاد الموقف عن سياقاته الإيرانية التي تبحث عن أفق تصعيدي في مواجهة الضغوط الأميركية، فلا بدّ من التشدّد في لبنان على غرار محاولة تسجيل اختراقات عسكرية وأمنية في دول الخليج. لم يعد معطى تشكيل الحكومة محلياً على الإطلاق. وكأنّ الحزب يريد التصعيد وتمرير الوقت بانتظار الانتخابات الاميركية وما سينتج عنها. بينما لم يعد يجد من يؤيده في لبنان، في مواجهة مواقف البطريركية المارونية المتمسّكة بالحياد. بينما لاقى موقف البطريرك الراعي يوم الأحد، البالغ الوضوح في رفض تكريس أعراف طائفية ومذهبية للوزارات، ترحيباً مسيحياً واسعاً، ولم يكن عون قادراً على الخروج عنه، لحسابات الموقع والدور، وحسابات العهد والحفظ على ماء وجهه، والحسابات السياسية المرتبطة بالعقوبات ومحاولة تجنّبها.
إذا كان جانب من المسيحيين قد تفهّم سلوك حزب الله وانخراطه في مواجهة الثورة السورية خضوعاً لدعاية مواجهة الإرهاب والتكفيريين، إلا أنّ تلك الذريعة قد تبدّدت اليوم، من موقف الراعي إلى مواقف كلّ القوى المسيحية، وجهات عديدة في كتلة لبنان القوي، والرأي العام الأوسع. هناك استشعار عام بأنّ حزب الله يشكّل خطراً على لبنان والصيغة، والتماهي مع مشروعه سيسهم في إنهاء الصيغة اللبنانية، بل ينعكس مخاطر جمّة على كلّ المكوّنات بما يتعلّق بالمصالح العامة والخاصة. وحتّى السجال المفتوح على وزارة المالية والتأسيس بتثبيت المثالثة، فهو يستهدف المسيحيين قبل غيرهم.
اليوم يبقى حزب الله وحيداً… وسيندم.