الهجرة غير الشرعية ليست بالأمر الطارئ في شمال لبنان بل هي موضوع مزمن يعود الى عقود مضت لكنه تفاقم بعد النزوح السوري الى لبنان وبدأ يتخذ بعداً محلياً مع ازدياد وطأة الأزمة المعيشية والاقتصادية على اللبنانيين. سابقاً كان المهاجرون غير الشرعيين في غالبيتهم من السوريين الهاربين من جحيم الحرب السورية او الفلسطينيين الساكنين في مخيمات الفقر ونادراً ما كان بينهم لبنانيون. فاللبنانيون حتى الأمس القريب كانوا رغم سوء أوضاعهم مكتفين بما لديهم يكدّون وراء سبل العيش في بلدهم او يتوجهون نحو بلدان الاغتراب بهجرة شرعية لطالما رافقت لبنان منذ نشأته.
استغل بعض أبناء الشمال ولا سيما ابناء عكار الوضع المعيشي الطارئ في سوريا ولبنان واستفادوا من خبرتهم البحرية ليتحولوا الى مهربين للبشر وتجار أحلام واهية يعدون كل باحث عن أمل بغد أفضل عبر إيصاله تحت جنح الظلام الى قبرص علها تكون أرض الميعاد التي منها ينطلق الى حياة أفضل. لكن بعد التشدد الأوروبي تجاه الهجرة غير الشرعية منذ ما يقارب السنوات الأربع ضبطت المعابر البحرية وشددت الإجراءات تجاه المهربين المعروفين بغالبيتهم وتوقفت عمليات الهجرة غيرة الشرعية لفترة. لكن مع انفلات الأحوال الأمنية في لبنان في الفترة الاخيرة وشبه انهيار الدولة عادت قوافل المهاجرين لتسلك طريقها المحفوف بالمخاطر نحو أوروبا عبر قبرص. والسؤال يطرح هنا هل الحالة الاقتصادية وحدها كانت الدافع وراء عودة قوارب الهجرة أم ثمة تسهيل من الجانب السوري للضغط على الاوروبيين وإنذارهم كما فعلت تركيا بأننا قادرون على إغراق أوروبا بموجات هائلة من المهاجرين غير الشرعيين يصلون إليها من بحر لبنان المفتوح؟ أم هو تسهيل من القوى المحلية في طرابلس والشمال بعدم الوقوف أمام من يود الرحيل وفتح الباب لهم وان بصورة غير شرعية للتخفيف من وطاة الأزمات الضاغطة التي تهدد بالانفجار؟
عمليات التهريب يقول احد المتابعين للمسألة الذي رفض ذكر اسمه، ليست بالقطبة المخفية ولا تتم عبر حدود شاسعة لا يمكن ضبطها بل إن العارفين بواقع العمليات على الأرض يقولون انها تمتد على مساحة ساحلية لا تتعدى 30 كيلومتراً بين منطقتي طرابلس والعبدة مروراً بالمنية والبداوي ويمكن مراقبتها وضبطها بسهولة، لكن يبدو ان ثمة سكوتاً وتجاهلاً مقصوداً للأمر. فمؤخراً انطلق من هناك 24 قارباً يحمل الواحد منها ما بين 30 و 50 شخصاً. لكن الفرق اليوم ان غالبية المهاجرين هم لبنانيون وبينهم آسيويون الى جانب السوريين والفلسطينيين. وعملية الهجرة هذه تتم وفقاً لآلية خاصة إذ يتساعد المهاجرون في جمع ثمن القارب الذي يتراوح سعره بين 300 و 350 مليون ليرة لبنانية ويعمل المسؤول عنه على تنزيل خارطة الطريق عبر جهاز GPS لتحديد المواقع ثم يتم تعديل محرك القارب ليتحمل المسافة الطويلة الى قبرص ويجرى تمويهه باللون الأزرق حتى يختفي مع لون البحر.
عملية التهريب يرجّح المصدر المطلع نفسه انها تتم بتنسيق مع المهربين:، فسابقاً كان يتم القبض على مركب من بين كل خمسة مراكب تخرج الى البحر، إذ كان المهربون يعملون على التبليغ عن مركبين مثلاً ويهربّون ثلاثة وهذا ما خلق حالة من عدم الثقة بهؤلاء المهربين المعروفين ودفع المهاجرين الى السعي لتملك القارب، حيث يتبرع أحد الركاب لقيادته وتكون لديه خبرة بسيطة بالتعامل مع المراكب أو تمرن لبعض الوقت على الامر، ويدفعون للمهربين “الأتاوة” المعهودة إذ يستحيل خروج مركب الى البحر من دون معرفة ورضى هؤلاء. الرحلات التي تخرج نهاراً تقوم بجولة في محيط الجزر الواقعة تجاه شاطئ طرابلس حتى تبدو وكأنها رحلات سياحية ترفيهية ثم عند حلول المساء تبيت قرب المياه الإقليمية لتكمل طريقها ليلاً نحو قبرص. وبعض الرحلات قد ينطلق ليلاً مباشرة باتجاه الجزيرة القبرصية.
وما يدعو الى الشك بغض القوى الأمنية النظر عن عمليات التهريب هو أن الرادارات البحرية يمكنها أن ترصد اي قارب يتحرك بمجرد اقترابه من المياه الإقليمية ويتم تبليغ البحرية اللبنانية او اليونيفيل لمطاردته أو تعطيله ويستحيل اقتراب او ابتعاد اي مركب على مسافة 12 ميلاً من الشاطئ من دون أن يكشفه الرادار. فكيف تمت كل العمليات السابقة من دون ان يسجل اي خرق فيها؟
والسؤال هنا يعود ليطرح من جديد هل أن بعض القوى الأمنية في طرابلس مستفيد من هذه العملية المربحة ام ثمة هدف محلي سياسي بحت يقضي بالسماح للفقراء بالهجرة بدل أن يبقوا كقنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في اي وقت نتيجة الفقر والإهمال اللاحق بالمنطقة؟
قبل عبّارة الموت الأخيرة أعادت قبرص 81 مهاجراً وصلوا الى أراضيها وباتوا ليلتهم في مخيماتها الخاصة باللاجئين التي يشرف عليها الاتحاد الأوروبي، ولكن المئات قبلهم تمكنوا من الوصول الى قبرص وبعدها الانطلاق الى دول أوروبية أخرى.
ويروي توفيق حمد وهو واحد من المهاجرين الـ 81 الذين تمت إعادتهم الى لبنان أنه بعد وصولهم الى قبرص فصلوا النساء والأولاد عن الرجال ووضعوهم في مخيمين مختلفين فكان ان بقيت زوجته وابنه الصغير المصاب بالتوحد بعيدين عنه ولم يعد يعرف عنهما شيئاً. وبعد قضاء أربعة أيام في المخيم طلبوا منهم ليلاً التجمع لإعادة إجراء اختبار الكورونا ثم اصعدوهم بالقوة الى المركب وأعادوهم الى لبنان بعد أن كان بعض الأشخاص هناك قد أمنوا لهم طعاماً لبنانياً ووعدوهم بتوكيل محامين عنهم. ويؤكد أحد العارفين أن إخراجهم بهذا الشكل تحت جنح الظلام من قبرص مستغرب جداً ومخالف للقوانين خاصة انهم باتوا في مخيمات هي تحت إشراف الإتحاد الأوروبي ولا سيما أيضاً أن بينهم سوريين تمت إعادتهم الى لبنان وهو ما اثار اعتراضهم وانزعاج الأمم المتحدة، كما يؤكد ان شبكة التهريب لا شك لديها امتدادات واضحة في قبرص تتعاون بشكل وثيق مع المهربين في لبنان وتستقبل الوافدين الى هناك وتسهّل لهم أمورهم وقد بات اسم أحمد طليس متداولاً بين أهالي عبّارة الموت على أنه أحد الضالعين في الشبكة وهو من اشاع خبر وصول ابنائهم الى هناك بسلام. ولكن تبقى عملية الترحيل وتوقيتها غامضة الأسباب في ظل نجاح الآلاف في الوصول الى قبرص في رحلات لا تستغرق أكثر من 12 ساعة.