في أوّل شباط من العام 1979 كانت أنظار العالم متّجهة إلى باريس. رجل الدين الإيراني آية الله الخميني كان يستقلّ طائرة إير فرانس عائدًا إلى بلاده ليقود فيها الثورة الإسلامية التي أطاحت شاه إيران الذي كان يعتبر أنه أقوى حاكم في المنطقة.
ولكن في مدينة أميان في فرنسا كانت هناك عائلة غير معنيّة بما يحصل وكانت تنصرف إلى الإهتمام بطفلها الصغير الذي ولد في 21 كانون الأول عام 1977. ذلك الطفل لم يكن إلّا إيمانويل ماكرون.
مساء الأحد 27 أيلول الماضي وقف إيمانويل ماكرون في قصر الأليزيه في باريس ليوجّه خطابه الثالث إلى اللبنانيين وليحكي مباشرة مع “حزب الله” ومن ورائه الثورة الإسلامية في إيران.
ذاك الطفل صار رئيس الجمهورية الفرنسية.
وعلى عكس الإنطباع الذي حاول البعض أن يلصقه به، فقد ظهر أنّه يعرف لبنان بكل تفاصيله جيّدا وأنّه يعرف أيضاً “حزب الله” جدًّا. بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 آب جاء ماكرون إلى بيروت وجال في المنطقة المنكوبة وبين الطبقة السياسية المغضوب عليها.
ومن جملة من التقاهم كان هناك من يمثّل “حزب الله”. وعندما عاد في أول أيلول كرّر خطابه السياسي الموجّه إلى اللبنانيين داعياً إلى حكومة خلاص وإنقاذ. ولكنّ محاولته باءت بالفشل.
في إطلالته الثالثة كان يحمّل المسؤولية الأكبر إلى “حزب الله”.
بين إيران وباريس
لم تحفظ إيران الإسلامية الجميل لفرنسا التي، في 6 تشرين الأول 1978، فتحت الباب لاستقبال الزعيم الديني المعارض لشاه إيران، الإمام الخميني.
117 يوماً أمضاها الإمام في نوفيل لو شاتو إحدى ضواحي العاصمة الفرنسية قبل أن يحين موعد عودته إلى إيران.
بعد نفي سنوات إلى تركيا والعراق سمحت السلطة الفرنسية باستقباله بعدما ضغط شاه إيران على الحكم في بغداد من أجل إبعاده ، وكان صدّام حسين لا يزال نائباً لرئيس الجمهورية ولكنه كان يمسك بالسلطة.
رضخ صدّام وقبلت باريس. على مدى الأيام التي قضاها الخميني في العاصمة الفرنسية كانت له الحرية في الإستمرار في ثورته الدينية وفي التحضير للعودة الظافرة إلى طهران. بعد ايام على عودته كان آخر رئيس للوزراء في إيران ما قبل الثورة شاهبور بختيار يضطر إلى التنازل عن الحكم والفرار من البلاد واللجوء إلى باريس.
بالنسبة إلى الثورة الجديدة الحاكمة باتت باريس أحد الشياطين الصغار بعد الشيطان الأكبر الولايات المتحدة الأميركية. لم تستسغ ثورة الخميني أن يبقى بختيار حيًّا في باريس فأرسلت من يغتاله في تموز عام 1980. فشلت العملية وأمسكت الشرطة الفرنسية بمن حاول تنفيذ العملية اللبناني أنيس النقاش “أبو مازن”.
كان النقاش من الذين تجنّدوا في خدمة الثورة الفلسطينية وعملوا بين حركة فتح والجبهة الشعبية وبين أبو جهاد خليل الوزير ووديع حداد ولكنّه تحوّل إلى العمل لمصلحة الثورة الإيرانية.
فهو كان “خالد” أحد أفراد المجموعة التي نفّذت عملية خطف وزراء نفط منظمة أوبيك في فيينا في العام 1975 إلى جانب كارلوس ولكن اسمه بقي سرّياً ولم يتمّ اكتشاف ذلك حتى بعد اعتقاله في فرنسا.
ولم يَكشِف عن هذا الأمر إلا بعد اعتقال كارلوس في العام 1994 ومحاكمته والحكم عليه بالسجن المؤبد. قبله كان القضاء الفرنسي قد حكم على النقاش بالسجن المؤبد أيضًا ولكن قضيته لم تنم ولم تتخلّ عنه إيران الإسلامية فخرج بعفو خاص من الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران في 27 تموز 1990. كان هناك اتفاق على هذا الأمر نتيجة تسوية قبلت بها باريس وتتعلّق بإطلاق الرهائن الفرنسيين الذين خطفهم “حزب الله” في بيروت عندما كان لا يزال يعمل تحت اسم منظمة الجهاد الإسلامي.
تعرف باريس الإمام الخميني جيّداً.
وتعرف حزب الله جيّداً أيضاً. في العام 1980 عندما اندلعت الحرب بين العراق بقيادة صدام حسين وإيران بقيادة الإمام الخميني تحولت باريس إلى الداعم الأكبر للعراق بالأسلحة.
ولذلك لم تغفر لها إيران مثل هذا الأمر خصوصا بعد الشعور الإيراني في بداية سنوات تلك الحرب بالتفوق العسكري العراقي بعد توغّل القوات العراقية داخل الأراضي الإيرانية قبل أن تستعيد التوازن.
تفجير دراكار وخطف الرهائن
في ظل ذلك الصراع الذي كانت صحراء الخليج ساحته، لم يكن لبنان بعيداً عن تلك المواجهة. يتذكّر كثيرون مثلًا قصّة تفجير مقرّ قوات المارينز في بيروت في 23 تشرين الأول 1983، وقد سقط فيه 241 جنديًا أميركيًا، ولكن قليلاً ما يتّم دمج هذا الحدث مع تفجير مقرّ القوات الفرنسية المظلية في الوقت نفسه، وقد سقط فيه 58 مظليّاً فرنسياً.
ربّما يعود السبب في تقدم خبر المارينز الأميركيين على المظليين الفرنسيين إلى أنّ الأميركيين يحيون سنوياً هذه المناسبة وإلى أن الصراع بقي مفتوحاً بينهم وبين إيران و”حزب الله” بينما عملت باريس على احتواء هذا الصراع وعدم البناء عليه ومراكمته.
كانت القوات الفرنسية قد أتت إلى لبنان بعد الإجتياح الإسرائيلي في حزيران 1982 من ضمن القوات المتعددة الجنسيات، ومن ضمنها قوات المارينز، ولذلك كانت عرضة لعملية التفجير الإنتحارية الكبرى بواسطة شاحنة مفخخة بقي اسم الإنتحاري الذي نفّذها مجهولًا.
أرادت إيران أن تجعل باريس تفهم أن دعمها العراق لن يكون من دون ثمن وأن وجودها العسكري في لبنان لدعم النظام “الطائفي الماروني” لا يمكن القبول به.
ولكنّ تلك العملية لم تكن نهاية المطاف.
في 22 آذار 1985 خطف مسلحون تابعون لـ”حزب الله” في بيروت الدبلوماسيين الفرنسيين مارسيل كارتون ومارسيل فونتان.
كان مسلسل خطف الرهائن الأجانب قد بدأ في بيروت ليشمل عدداً من الأميركيين والبريطانيين والألمان… وكانت باريس قد تأكّدت أنّها لا بدّ من أن تدفع الثمن. في 21 ايار 1985 عاد من باريس إلى بيروت الباحث الفرنسي ميشال سورا ورفيقه جان بول كوفمان.
بعد خروجهما من المطار انضما في اليوم التالي إلى لائحة المخطوفين. كان سورا قد أجرى دراسات عن سوريا والعلويين واتُّهم بأنّه جاسوس، ذلك أن دراساته تضمّنت نقدً ا للنظام السوري ولـ”الدولة المتوحّشة”.
بعد عام تقريبًا على خطفه تمّ الإعلان عن إعدامه.
لم يعرف وقتها إذا كان تمّ إعدامه فعلًا أم أّنه قضى نتيجة المرض حيث تم نقله لاحقًا إلى مقرّ اعتقال فردي بعيدًا عن رفاقه. وقد تمّ دفن جثّته في مكان لم يعلن عنه.