أنا الحلّ
يمكن البناء على ما قاله الحريري بموقفين لا ثالث لهما. أنه مرشح دائم لرئاسة الحكومة و”بلا جميلة أحد”، وأن كل من يعارضه أو يعترض على أدائه أو يوجّه له ملاحظة، هو “مزايد” ومشروع خائن أو أنه غير وطني.
كرر ترشحه لرئاسة الحكومة مرتين، وأبدى استعداده لإجراء الإتصالات اللازمة، بحال كان هناك موافقة على الخطة الفرنسية وصندوق النقد، وإنه لن يقفل الباب. ذهب إلى تقديم أوراق اعتماده كرجل لا يريد ترك البلاد أمام الانهيار، ولا أن يكون تعطيل البلد بسبب الخلاف على وزارة المال، وأنه لا يمانع منحها للثنائي الشيعي.
قال إنه لا يمتلك أي معطيات جديدة، ولكنه يريد أن يقول ما لديه. وما لديه، كان أنه مستعد أكثر من أي وقت مضى لترؤس الحكومة! فيما السؤال يبقى إذا ما توفّر الجو أو المعطى الدولي الذي يمنحه الضوء الأخضر لذلك.
مساع فرنسية؟
حتى هذين الموقفين ليسا جديدين في قاموس الحريري، على الرغم من أنهما ظهرا بوضوح هذه المرة. فلم يجدد مواقفه التي اطلقها سابقاً عبر بياناته أو تسريبات مصادره، بأنه غير مرشح لرئاسة الحكومة. في إطلالته التلفزيونية لم يكن بالإمكان أن يطلق مثل هذا الموقف، لأن الوقت ضيق، والبحث عن تسوية تعيد تكليفه برئاسة الحكومة يدور فعلاً في بعض الكواليس، وينتظر جهوداً فرنسية جديدة مع الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية لتأمين الموافقة على توليه حكومة، سيكون حزب الله حتماً شريكاً فيها. من هنا، كان الحريري حريصاً في حفاظه على خطّ “الرجعة” على الرغم من الانتقادات التي وجهها للحزب.
موقفه ممن انفضّ من حوله من السنّة، يؤكد أنه لا يمكنه أن يرى غيره رئيساً للحكومة. تجربة محمد الصفدي، بهيج طبارة، سمير الخطيب، وصولاً إلى مصطفى أديب (ناهيكم عن حسان دياب) خير الدلائل على ذلك. وبمجرد أن يقول إنه مرشح لرئاسة الحكومة بلا منّة من أحد، مشيراً إلى كتلته النيابية يعني أنه استحضر قوته السنّية البرلمانية، للإشارة إلى أنه الأحق كممثل للطائفة السنية وفق المعادلات المطروحة. وأكمل فكرته بأنه مستعد لإجراء اتصالات في الأيام المقبلة لمعرفة التزام الأفرقاء بالمبادرة الفرنسية. ولهذا الكلام تفسيران، إما أنه فوّض نفسه عوضاً عن الفرنسيين لمتابعة مبادرتهم، أو أنه يريد إجراء الاتصالات بحثاً عن تسوية معينة. وهنا لا بد من العودة إلى كلام قاله يوم الإثنين، بأن عون قد يدعو إلى الإستشارات النيابية في الأيام القليلة المقبلة. هذا المعطى لم يكن متوفراً لدى أحد غيره من المسؤولين، حتى الرئيس نبيه برّي كان يقول إنه لن يحصل شيء قبل الأسبوع المقبل. أي بعد جلسة المفاوضات الأولى حول ترسيم الحدود.
التقارب مع باسيل
ربما للاستيضاح عن سبب علم الحريري بدعوة عون للإستشارات، لا بد من الاستناد إلى ما كشفه عن إجرائه اتصالاً برئيس التيار الوطني الحرّ، جبران باسيل، للاطمئنان على صحته بعد إصابته بفيروس كورونا. هذا الاتصال لا بد من التوقف عنده ملياً. ولا بد من انتظار ما سيظهر من مضامينه لاحقاً. لكن حتماً له علاقة بما علم به الحريري قبل غيره من السياسيين، خصوصاً عندما أشار إلى أن على التيار الوطني الحرّ أن يقرر، إذا ما كان سيذهب شرقاً أو غرباً. هي إشارة على ما قد يجتمع عليه الحريري والتيار مجدداً، على وقع العقوبات الأميركية، والتي قد تغير مواقف العونيين، فيتقاربون كما تقاربوا قبل تنازله عن وزارة المال، وعندما رفض عون تكريسها لأي طائفة.
المفاوضات الحدودية والتسوية الداخلية
أهم ما ينظر إليه الحريري كان مفاوضات ترسيم الحدود، والتي أصبحت بشكل واضح مفاوضات مباشرة بين حزب الله والأميركيين. ولذلك هو لا يريد أن يكون بعيداً عن المشهد وعن الصورة، ويقع في مواجهة حزب الله أو استعدائه. فتح الباب أكثر أمام إجراء بعض التعديلات الدستورية. في محاولة استشرافية لأي تغيير في الموازين السياسية أو الدستورية قد تفرضها الوقائع مستقبلاً، بنتيجة هذه المفاوضات وما سيليها. والبحث في ملف السلاح وما سيكون المقابل له سياسياً وفي معادلة النظام السياسي.
وفي الوقت الذي يستمر فيه الحريري بالكلام عن وجوب الذهاب إلى تسوية، لأن لبنان أمام خيارين، وفق ما يقول: إما استمرار التعطيل، وانتظار حصول تطورات كبرى يجبر فيها على الدخول في التسوية، أو اختيار التسوية اختزالاً للوقت. وهو حتماً يختار التسوية، ويهاجم كل من ينتقده، علماً أنه في محاولاته لتبرير التسوية يذهب إلى استخدام لهجة التصعيد. فهذه المرّة “اكتشف” أن حزب الله صاحب مشروع خارجي! وقد ضمّ إليه حركة أمل أيضاً، بخلاف ما كانت عليه نظرته تجاه الحركة. وكذلك بالنسبة إلى موقفه من التيار الوطني الحرّ ومواقف جبران باسيل، علماً أنه دخل في تسويات كثيرة معهما، ولا يزال مستعداً، ولن يقفل الباب.
مشكلة سعد الحريري أنه لا يقوى على الانتظار في السياسة، علماً أنها فنّ الانتظار. فلا يتعاطى معها إلا كسائح”.