في لبنان يقبع الموقوف رهن التحقيقات الأوليّة عدّة أشهر، خلافًا لقانون أصول المحاكمات الجزائية. خلالها قد يتعرّض لشتّى أنواع التعذيب، من قبل الأجهزة الأمنية بغية انتزاع اعترافات منه. حالات التعذيب والترهيب كثيرة، وثّقتها جمعيات حقوقيّة محلّية، و”منظّمة العفو الدولية” خلال العام الماضي في تقرير بعنوان “لبنان يخذل ضحايا التعذيب بتأخيره تطبيق القانون”. في بعض الحالات أودت فصول التعذيب بحياة موقوفين، لتبدأ بعدها عملية لفلفة الجريمة وطمس الحقائق، خصوصًا في ظلّ المعوقات التي تواجه المحامين في إثبات جريمة التعذيب، بحيث يُرفض طلب المحامي في تعيين طبيب شرعي لموكّله، ويذهب معظم القضاة لتعيين طبيب السجن الذي يتواطأ في الغالب، أو يتمّ تأخير تعيين الطبيب أطول فترة ممكنة، بحيث تكون آثار التعذيب قد بدأت بالزوال، وبطبيعة الحال يبقى مرتكبو جرائم التعذيب خارج المحاسبة.
هذه الممارسات لطالما شكّلت نقطة سوداء بحق لبنان في سجلّ حقوق الإنسان، ولطالما تجاهل القضاء دوره في فتح تحقيق في ممارسات التعذيب، والذهاب بها للنهاية ومحاسبة مرتكبيها. انطلاقًا من هنا عمل مجلس النواب على معالجة هذه الثغرة، من خلال اقتراح قانون قدّمه النائبان جورج عقيص وزياد حوّاط لتعديل المادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، لجهة السماح للمحامي بمؤازرة موكّله خلال التحقيق، وبالتالي يكون المحامي حاضرًا أثناء التحقيقات الأولية وقادرًا على توثيق ما يجري، الأمر الذي لم يكن متاحًا قبل التعديل.
هذا الإقتراح أُّقرّ في الجلسة التشريعية الأخيرة في 30 أيلول الماضي، والقانون يحتاج إلى توقيع رئيس الجمهورية ونشره في الجريدة الرسمية ليصبح نافذًا. ولكن هل سيطبّق من قبل القضاء؟ بمعنى هل عدم حضور محامٍ أثناء التحقيقات الأولية يجعل التحقيق باطلًا؟ ماذا بشأن الموقوفين الذين لا تسمح إمكاناتهم المادية بتوكيل محامٍ؟
هذه الأسئلة طرحناها على مقدّم الإقتراح النائب جورج عقيص الذي أكّد إلزامية القانون، وفي حديث لـ “لبنان 24” أوضح عقيص أهمية القانون “لجهة معرفة الموقوف في البداية أنّ حضور محاميه التحقيق الأولي حقّ مكرّس له بموجب القانون. ليأتي بعد ذلك دور القاضي الذي عليه أن يتحقّق من أنّه عُرض على الموقوف حقّه بالاستعانة بمحام بالشكل المناسب، وأنّه تمّ إبلاغ نقابة المحامين، فهناك آلية ستعتمد تلعب خلالها نقابة المحامين دورًا مهمًا لجهة توكيل محامين للمتّهمين غير المقتدرين ماديًا”. ولفت عقيص إلى أنّ هذه الصيغة واضحة بالتعديل الذي أُقرّ “وأكثرمن ذلك محضر التحقيق الأولي يعتبر باطلًا في حال لم يتضمن توقيع الموقوف، بأنّه تمّ إطلاعه على حقّه بالاستعانة بمحامٍ”.
جمعية “نضال لأجل الإنسان” المهتمّة بقضايا السجون من الإكتظاظ إلى بطء المحاكمات وتفشي كورونا، كانت قد تابعت قضية التعذيب في السجون، وآخرها قضية حسان الضيقة الذي توفي أثناء توقيفه العام الماضي. آنذاك اتّهم والده، فرع المعلومات بتعذيبه حتّى الموت. الجمعية رحّبت بإقرار القانون ورأت فيه إيجابيات جمّة، أبرزها وفق المستشار القانوني للجمعية فريد محمود في حديث لـ “لبنان 24” أنّ القانون يضع حدًّا لممارسات أربكت القضاء فترةً طويلة “منها إعتقال الأجهزة لشخص ما، ليس دون إشارة القضاء المختص فحسب إنّما أيضًا دون علمه، إلّا بعد أن تفرغ من الإجراءات التي تقرّرها وتمارسها خارج إطار القانون، ثم ترمي الاعترافات التي انتزعتها خلال تحقيقاتها المخالفة للقانون أمام القضاء، الذي يستسهل القضية، عندما يرى أمامه ملفًّا سبق أن بُت به، ولم يبق إلّا إصدار الحكم، وذلك دون أن يتمكّن من احتساب مدّة التوقيف، لأنّه يعلم أنّها غير قانونية، ولا يحرّك ساكنًا”. أضاف محمود “صحيح أنّ القانون أتى ليضع حدًّا لممارسات الضابطة العدلية، ولكنّه في الوقت نفسه يضع القضاء أمام مسؤوليته في أداء مهامه لجهة تطبيق القانون وحماية المواطنين”.
رغم وضوح القانون يبقى الخوف مشروعًا من عدم تطبيقه، بوجود عشرات القوانين النافذة والتي لا تطبّق. على سبيل المثال القانون رقم 65 الذي ينصّ على تجريم التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية واللاإنسانية والمهينة، والذي أقرّ عام 2017، ورغم ذلك بقيت ممارسات التعذيب قائمة.
في هذا الإطار يوضح عقيص “لا يجب الخلط بين القانونين، قانون تجريم التعذيب له حالاته، بحيث يتيح ملاحقة ومعاقبة المرتكب للتعذيب سواء أكان ضابطًا أو رتيبًا بجرم جزائي، بينما القانون الذي نتحدث عنه يمنح ضمانات لتوفير أعلى درجة من العدالة في التحقيقات الأولية”. في حال تمّ تجاوز هذا الحق، بحيث وصل موقوف إلى مخفر ما، ولم يعرض الرتيب المسؤول على المتّهم حقّ الإستعانة بمحام، هل يلاحق الرتيب تأديبيًا، وهل يعتبر التحقيق الأولي باطلًا؟ يجيب عقيص “هنا دور القضاء بتطبيق القانون، وعلى نقابة المحامين أن تلعب دورها كحامية للحريات. نحن كمشرّعين وضعنا الإطار العام الذي لم يكن موجودًا نهائيًا، ودورنا يستكمل بالملاحقة والمتابعة والرقابة البرلمانية على العمل الحكومي الذي يشبوه تقصير بالتأكيد”.
من جهتها جمعية “نضال لأجل الإنسان” تبدي خوفها من عدم تطبيق القانون المذكور من قبل الجهات الموكلة بتطبيقه، خصوصًا أنّ الشواهد كثيرة على عدم إحترام القوانين، منها قانون أصول المحاكمات الجزائية بحدّ ذاته، لا سيّما المادة 107 منه، الى جانب قوانين أخرى.
القانون خطوة في اتجاه إلتزام لبنان بمبادىء حقوق الإنسان، ومن شأن تطبيقه أن يحمي الموقوف من التعذيب والترهيب أثناء التحقيقات الأولية، خصوصًا أنّ أقواله خلال هذه التحقيقات تشكّل مرتكزًا للحكم بحقّه. وتبقى العبرة بالتطبيق، وعلى القضاء المعني الأول بتنفيذ أحكام القانون أن يثبت مصداقيته أمام اللبنانيين، وعلى المواطن أيضّا أن يطّلع على حقوقه المكرّسة في النصوص القانونية، ويتمسّك بتطبيقها، ويفضح المتخاذلين.