كتب طوني عيسى في “الجمهورية”: إذا كان الفرنسيون “يؤمنون” بأنّ طاقم السلطة يمكن أن ينصاع للإصلاح في النهاية، فعليهم استشارة اختصاصي في الأمراض الذهنية. نحن في لبنان نعرف، من زمن الأجداد، أنّ “مَن جَرَّب المُجرَّب… عقلُه مخرَّب”. ويقول آينشتاين: “الجنون هو أن تفعل الأمر إيّاه، مرة بعد أخرى، وتتوقع نتيجة مختلفة”.
قاعدة الإصلاح، كما يراها الفرنسيون والأميركيون والجهات الدولية المانحة، هي معرفة: “أين ذهبت أموال اللبنانيين؟ لنستردها من هناك؟”. ولبلوغ هذا الهدف، يجدر التدقيق داخل مؤسسات الدولة وأجهزتها ومرافقها كلها، ولا سيما منها وزارتي المال ومصرف لبنان. فمِن هنا مرَّت كل أموال اللبنانيين وتبخَّرت!
طاقم السلطة يعمل لتحويل المسألة إلى مكان آخر: نعم. الأموال ضاعت، ولكن لا تسألوا كيف. عفا الله عمّا مضى. تعالوا نبدأ مجدداً نسترضي العرب والأجانب فيعطوننا المليارات مجدداً. ونبيع أملاك الدولة لتغطية جزء من المنهوب، والبقية يدفعها الناس جميعاً. وأما نحن، فملياراتنا آمنة في الخارج، تحميها سلطة سياسية تمنع أي تدقيق جنائي. وهكذا، نجدِّد لأنفسنا ولأولادنا والمحاسيب دوام النهب لسنوات أخرى!
الفساد تمادى طويلاً قبل صفقة 2016، وبلغ الذروة بعدها، وأصبح كارثة بعد انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، ووقائع الأيام الأخيرة في ملف التدقيق الجنائي في مصرف لبنان قدَّمت براهين إضافية تُثبت ما يخطط له النافذون في السياسة والمال والأمن. وتحت سقف هذا الفساد، هم يتعاطون حتى مع ملف الحكومة ومفاوضات الترسيم مع إسرائيل.
ربما لم تفاجأ شركة Alvarez & Marsal بالواقع الذي وصلت إليه في رحلة التدقيق، ومن أول الطريق. فالجميع كان يعرف أنّ أسرار الفساد مصانة جيداً. ربما أرادت الشركة أن تحاول لعلها تنجح. وربما قرّرت المحاولة عمداً لتفضح حقيقة الطاقم المُمسك باللعبة. وربما اعتقد بعض هذا الطاقم أنه «يَمون» على الشركة لـ»إقناعها» باللفلفة.
ولكن، في النتيجة، الاتجاهات كلها ستقود إلى كشف الحقيقة: مَن يُخفي الحقائق ويمنع كشفها ولماذا؟
المعلومات عن مجريات التدقيق تشير إلى أنّ اليوم، الثلثاء، سيكون حسّاساً في تحديد الاتجاه الذي ستختاره الشركة: القبول بلفلفة الملف أو الانسحاب. فماذا في الوقائع؟
وصل وفد Alvarez، على مستوى رفيع، قبل 8 أيام، وهو برئاسة المدير العام للشركة جيمس دانيال. ومن أول الطريق، اصطدم بمشكلة مبدئية هي رفض المصرف أن يلتزم تطبيق اتفاق مع الشركة لم يوقعه هو بل وزير المال.
ولذلك، من اليوم الأول، رفض المصرف تخصيص الوفد بأحد المكاتب الشاغرة لكي يقوم بمهمته. وأخذ الوزير غازي وزني على عاتقه معالجة الأمر بإيجاد مكتب له في الوزارة وترتيب العلاقة بين الجانبين.
ورفض الحاكم رياض سلامة أن يقدم إيضاحات رداً على عشرات الأسئلة التي طرحتها الشركة، والمتعلقة بالوقائع والأرقام الضرورية للإضاءة على مجريات الهندسات والتحاويل المالية في فترات سابقة.
وخلال اجتماعه بالوفد، أعلن الحاكم بوضوح أنّ حدود التعاون المطلوبة منه ستكون محدودة، بسبب الضوابط التي يضعها قانون السرية المصرفية وقانون النقد والتسليف.
عملياً، أدرك وفد الشركة، منذ اللحظة الأولى، حقيقة مشكلته. وكان أمامه خيار القبول بمقدار بسيط من المعلومات، لا قيمة له، أو إعلان الانسحاب باكراً. وطبعاً، وزني يفضّل عدم «كسر الجرّة» بأي ثمن. وهو حريص على عدم الوصول إلى هذه النقطة، لأنها ستعني الكارثة سياسياً.
فصندوق النقد الدولي والفرنسيون والأميركيون وسائر القوى والجهات الدولية سينظرون إلى انسحاب الشركة على أنه إدانة مكشوفة للطاقم السياسي. وسيعني ذلك القضاء على أي فرصة لإعادة التفاوض مع الصندوق وإنهاء أي مبادرة أو رغبة دولية في المساعدة، وسيقود ذلك إلى تكريس الانحدار بلبنان نحو قعر الهاوية.
وتحدثت المعلومات عن مناخ سيئ جداً ساد الاجتماع الذي عُقد الثلثاء الفائت بين الوفد وأعضاء لجنة الرقابة على المصارف. وعلى أثره، قام الوفد برفع شكواه إلى رئيس الجمهورية ميشال عون. وحاول وزني ترطيب الأجواء في اللقاء، الذي شارك فيه من جانب القصر الوزير السابق سليم جريصاتي والمستشار الاقتصادي والمالي الدكتور شربل قرداحي.
وكان قد تردَّد أن عقد الاتفاق الذي حمله وزني إلى عون قبل أكثر من شهر، بعد توقيعه، تضمَّن تعديلات لم يكن الرئيس راضياً عنها، لأنها تزيد الصعوبات أمام التدقيق. وفي أي حال، الأمور مرهونة باجتماعات اللجنة الخاصة، والتي يتشارك فيها المصرف المركزي ووزارة المال.
في القصر الجمهوري، تمّ الاتفاق على أن يتلقّى وفد الشركة أجوبة من المركزي قبل اليوم الثلثاء تسمح له بالانطلاق في أعماله، وإلا فإنه سيضطر إلى الانسحاب. وهو أبلغ الى الجانب اللبناني أنه سيلتزم منطوق العقد الذي يمنحه الحق في إعلان عجزه عن أداء مهمته والانسحاب، إذا لم تتوافر له العناصر الكافية لإجراء التدقيق.
المطّلعون يقولون إنّ هناك اتجاهين يتحكمان بالقوى السياسية في هذه المسألة، وفي الموقف من المصرف المركزي عموماً:
1 – إتجاه الرئيس نبيه بري والرئيس سعد الحريري وحلفائهما، وهؤلاء يشكلون المعسكر المدافع عن سلامة.
2 – إتجاه رئيس الجمهورية وفريقه السياسي الذي يرمي إلى تبديل سلامة. ويتردّد أن هذا الفريق يرغب في إيصال قرداحي إلى المنصب، خصوصاً أنه يرتبط بعلاقة جيدة مع بعض القريبين من «حزب الله»، وبينهم الدكتور عبد الحليم فضل الله الذي كان «الحزب» قد طرح اسمه لحقيبة وزارة الصناعة عند تأليف حكومة دياب.
ولكن، الأرجح أنّ «حزب الله» يفضّل الاحتفاظ بكل الأوراق، هنا وهناك، من باب الاحتياط.
الواضح أنّ هذين الاتجاهين يختلفان في السياسة والسيطرة على المواقع. ولكن، لا شيء يوحي بأنّ هناك مصلحة لأحد بفتح الباب فعلاً لا لشركة Alvarez ولا لسواها في كشف الخفايا «العميقة» التي تبدأ بمصرف لبنان ولا تنتهي في عشرات الوزارات والمؤسسات والمرافق والأجهزة المعروفة وغير المعروفة.
هل تخرج الشركة من اللعبة؟
قبل ذلك، يجدر السؤال: في أي اتجاه ستمارس القوى الدولية ضغوطها؟ إجبار الجميع على التدقيق وفضحهم، أم خروج Alvarez في شكلٍ مُدوٍّ وفضحهم؟ وهل هناك مجال لـ»اللفلفة»، لماذا؟ وبأي ثمن؟