انطلاق قطار مفاوضات الترسيم البحري بين لبنان وإسرائيل

15 أكتوبر 2020

كتب وسام أبو حرفوش وليندا عازار في “الراي” الكويتية: “لم يكن عابِراً أن تطغى تشظياتُ الصراعِ اللبناني – اللبناني حول طبيعة الوفد الذي كُلِّف خوضَ مفاوضاتِ الترسيم البحري مع إسرائيل، على تاريخية هذا الحَدَث الذي انطلق أمس، والذي يصعبُ نَزْعُ «التفسيرات» السياسية عنه في ضوء «تأثيراتِه» التي تتداخل مع حال عداءٍ بين بيروت وتل أبيب يشقّ مسارُ إنهاء النزاع البحري طريقَه على ضفافها، عابراً في الوقت نفسه «حقول النار» الإقليمية و«خارقاً» جبهة المواجهة الكبرى على خط واشنطن، «الوسيط المسهّل» لملف الترسيم، وطهران الجالسة عن بُعد على طاولة التفاوض الذي أعطى «حزب الله» الضوءَ الأخضر لإقلاعه على متن اتفاق إطار أعلنه رئيس البرلمان نبيه بري.

وفيما كانت عدساتُ الإعلام العالمي شاخصةً على الجولة الأولى من مفاوضات الترسيم وجغرافيتها وشكْلها والصورة غير الرسمية التي بقيَ التقاطُها سراً، ومن باب «توثيق» الحَدَث الذي تستضيفه الأمم المتحدة (في أحد المراكز التابعة لمقرّ «اليونيفيل» في الناقورة) وينعقد تحت عَلَمها، كانت بيروت منهمكةً بتداعيات دخولها هذا المسار المزروع بالأفخاخ التي تُخْفي وراءها «عيْناً» اسرائيلية على ثروةٍ كامنة تحت البحار المتنازَع عليها في بقعةٍ من المنطقة الاقتصادية الخالصة تابعة لـ «بلاد الأرز»، بـ «خاصرةٍ رخوةٍ» شكّلها انفجار الخلاف الداخلي حول هوية الوفد المُفاوِض الذي بدا محاصَراً من «أجندة العدو» وضرورات التصدي لها وفي الوقت نفسه من الكباش اللبناني – اللبناني الذي تَجاوَزَ هذه المَرة كل الحدود.

وأبعدُ من «الإنذار» الذي انطوى عليه «بيان الفجر» الذي أصدرتْه قيادتا «حزب الله» وحركة «أمل» (يترأسها بري) وتوجّهتا فيه إلى رئيس الجمهورية ميشال عون بلغةٍ غير مألوفة طالبتاه فيها بـ «المبادرة فوراً» لإعادة تشكيل الوفد المفاوض وسحب الشخصيتين المدنيتين منه (عضو ادارة قطاع البترول وسام شباط والخبير نجيب مسيحي)، فإن «انتفاضة» الثنائي الشيعي التي لم يستجِب لها عون، تشي بأن تكون بمثابة «فتيلٍ» سيتفاعل على امتداد جولات المفاوضات المديدة (جولتها الثانية في 26 الجاري) المحكومة بسرعتيْن متباينتيْن لبنانياً: واحدةٌ لفريق عون تستعجل اتفاقاً، يحرّر البقعةَ المتنازَع عليها (نحو 862 كيلومتراً مربعاً) وربما مساحة أكبر ويسمح بإطلاق التنقيب فيها، وفق حسابات يتشابك فيها وهج العقوبات الأميركية مع الرغبة في توسيع الشبكة الدولية حول الاستحقاق الرئاسي المقبل.

والسرعة الثانية لـ «حزب الله» الذي أَمْسَك طوال العقد الماضي و«حصْراً» عبر بري بالإمرة في هذا الملف الذي لا يمكن تَصَوُّر أن يفرّط بتوظيفه وفق مقتضيات «الشدّ والتراخي» على الجبهة الإيرانية – الأميركية، أي وفق المنظور الاستراتيجي الذي يحكم مقاربته للقضايا الكبرى.

ومَن يدقق في مضمون «البيان القيادي» الذي صدر بعد فشل اتصالات الكواليس في جعْل عون يتراجع عن إدراج شباط ومسيحي في الوفد، يُلاحِظ أن الثنائي الشيعي استخدم لغة تشكيكية «صريحة» برئيس الجمهورية انطلقت من أن «ضمّ الوفد اللبناني لشخصيات مدنية مُخالِفٌ لاتفاق الاطار الذي أعلنه الرئيس بري»، قبل أن يشير إلى «ان موقف (حزب الله) و(امل)، وانطلاقاً من التزامهما الثوابت الوطنية ورفْضهما الانجرار الى ما يريده العدو الصهيوني من خلال تشكيلته لوفده المفاوض، فإنهما يعلنان رفضهما الصريح لِما حصل لأنه يضرّ بموقف لبنان ومصلحته العُليا ويُشكّل تجاوزاً لكل عناصر القوّة لبلدنا وضربة قوية لدوره ومقاومته وموقعه العربي ويُمثّل تسليماً بالمنطق الإسرائيلي الذي يرغب بالحصول على أي شكلٍ من أشكال التطبيع».

وعلى وقع هذا الشرخ اللبناني، انطلق قطارُ التفاوض الذي حضره وفد أميركي (من 7 أعضاء) تقدّمه مساعد وزير الخارجية ديفيد شينكر والسفير الأميركي السابق الذي سيكلّف متابعة الملف جون دورشر، ووفد أممي (من 3 أشخاص) على رأسه المنسّق الخاص في لبنان يان كوبيتش، وقائد «اليونيفيل» الجنرال ستيفانو دل كول، والوفد اللبناني الذي ضمّ كلاً من العميد الركن بسام ياسين (رئيساً) وعضوية العقيد الركن البحري مازن بصبوص وشباط ومسيحي، فيما تألف الوفد الاسرائيلي من 5 مدنيين وعسكرييْن برئاسة المدير العام لوزارة الطاقة أودي أديري، وكان بين أعضائه رؤوفين عيزر والمستشار السياسي لرئيس الوزراء ألون بار، ورئيس القسم السياسي في الخارجية العميد أورين سيتر.

وإذ جرت مفاوضات الترسيم في خيمةٍ أنشئت خصيصاً لهذا الاجتماع مقابل مقر القيادة الرئيسية لـ «اليونيفيل» وتحديداً في القاعة التابعة للكتيبة الإيطالية، جلست الوفود حول طاولة مربّعة وكان الوفدان اللبناني والإسرائيلي متقابلان وعلى جانبيهما الوفدان الأميركي والأممي ولم يتبادلا أي أحاديث مباشرة، واختار الوفد اللبناني التحدث بالعربية مع ترجمة فورية الى الانكليزية.

وأثارت الصورة التذكارية بلبلةً في جلسة الافتتاح، حيث حاول الجانبان الأميركي والإسرائيلي التقاط صورة رسمية وهو ما رفضه الجانب اللبناني. وفي حين أشارت تقارير إلى أن صورة أُخذت من دون الوفد اللبناني، لفتت معلومات أخرى إلى أن صورة فوتوغرافية التُقطت للمجتمعين حول الطاولة المربّعة.

وفي مضمون الجلسة التفاوضية، فقد جاءت تمهيدية بروتوكولية وتخللتها كلمات لكل من شينكر الذي أكد أهمية بدء المفاوضات ونجاحها ودور بلاده كمسهّل للتفاوض من دون التدخل في التفاصيل، ومن كوبيتش الذي شدد على وضع امكانات الأمم المتحدة لإنجاح هذا المسار، ومن رئيس الوفد الاسرائيلي الذي لفت إلى أن مهمته محصورة بموضوع الترسيم البحري، ومن العميد ياسين الذي ذكّر بإطار التفاوض، موضحاً انه «انطلاقاّ من مصلحة وطننا العليا نتطلع لأن تسير عجلة التفاوض بوتيرة تمكننا من إنجاز هذا الملف ضمن مهلة زمنية معقولة، ونحن هنا اليوم لنناقش ونفاوض حول ترسيم حدودنا البحرية على أساس القانون الدولي، واتفاقية الهدنة عام 1949، واتفاقية بوليه/ نيوكومب عام 1923 وتحديداً بشأن ما نصت عليه حول الخط الذي ينطلق من نقطة رأس الناقورة براً»، مشدداً على «أن تثبيت محاضر ومناقشات اجتماعات التفاوض التقني غير المباشر، وكذلك الصيغة النهائية للترسيم يتمان بعد تصديق السلطات السياسية اللبنانية المختصة».

وفيما أعلنت إسرائيل بعد الاجتماع أنها ستواصل المحادثات الحدودية مع لبنان «لإعطاء فرصة للعملية»، لفتت الخارجية الأميركية في بيان مشترك مع مكتب منسق الأمم المتحدة الخاص للبنان أنه «خلال الاجتماع الأول بين ممثلين لحكومات لبنان واسرائيل والولايات المتحدة جرتْ محادثات مثمرة وأعاد المجتمعون تأكيد التزامهم بمواصلة المفاوضات في وقت لاحق من هذا الشهر».

وفي موازاة هذا العنوان الذي سيطبع المشهدَ اللبناني لفترةٍ طويلة، لم يسترح ملف تأليف الحكومة الجديدة الذي يضرب موعداً اليوم مع محطة مفصلية هي الاستشارات النيابية المُلزمة التي دعا اليها عون لتكليف رئيسٍ بدت كل المعطيات تشير إلى أنه سيكون زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري، ما لم تطرأ مفاجأة في الدقائق الخمس الأخيرة.

وأمكن في ضوء خلاصات مشاورات ما قبل التكليف التي قام بها الحريري استخلاصُ أن مرحلة التأليف وتالياً طبيعة الحكومة وتوازناتها ستكون مصابةً بالشظايا المتطايرة أولاً من خلاف فريق عون – «حزب الله» حول ملف الترسيم الذي سيصبّ في نهاياته عند السلطة التنفيذية، وثانياً من عصْف العلاقة المتفجرة بين الحريري ورئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل الذي لن تسمّي كتلتُه زعيمَ «المستقبل» والذي لا يُعرف بعد الهجوم الناري الذي شنّه على الحريري (أول من أمس) وحدّد من خلاله شروطه لحكومة اختصاصيين «تبدأ من رئيسها» أو لـ «خلطةٍ» من الاختصاصيين والسياسيين «بلا تذاكٍ»، إذا كان في وارد تسهيل التشكيل.

وفي رأي أوساطٍ سياسية أن الحريري، المرجّح تكليفه بنحو 70 صوتاً والذي اختار هذه المرة عدم التوقف عند عدم تسميته من الفريقيْن المسيحييْن الأكثر تمثيلاً (التيار الحر والقوات اللبنانية) منطلقاً من أن ميثاقيته ترتكز على قوّته التمثيلية سنياً وأيضاً من حصوله على أصوات نواب مسيحيين، سيجد نفسه سريعاً أمام اختبار ما إذا كان الإفراج عن تكليفه بوصْفه يمتطي المبادرة الفرنسية هو لمجرّد كسب الوقت على أن يتم تفخيخ مسار التأليف الذي يصطدم أصلاً حتى الساعة بمدى إمكان تدوير زوايا إصرار الحريري على حكومة اختصاصيين من غير الحزبيين ولا تسميهم القوى السياسية (وفق منطوق المبادرة الفرنسية) مقابل تَمَسُّك الثنائي الشيعي بتسمية وزرائه ما سيستجرّ مواقف مماثلة لسائر الكتل.

ولن يكون من السهل على الحريري إدارة مرحلة التأليف على وقع رسالة غضب لافتة وُجهت أمس من الجسم النقابي الذي نزل الى الشارع في «ربْط نزاع» مبكر مع أي إجراءات إصلاحية تطاول الفئات الشعبية يتعيّن على الحكومة المقبلة القيام بها، والأهمّ في ظل توقعات بتجديد انتفاضة 17 اكتوبر 2019 نفسها بعد غدٍ مستفيدة من مفارقة أن يعود زعيم «المستقبل» وربما سائر الأحزاب، ولو بصيغ مموّهة، إلى الحكم في ذكرى عام على استقالته على وهج الثورة.