وبدت بيروت أمس تحت تأثير «صدمة» تأجيل الاستشارات، وما انطوت عليه ليس فقط من امتداداتٍ سياسية ستتدحْرج تداعياتها في الأيام الفاصلة عن الموعد الجديد الذي حدّده عون الخميس المقبل، بل أيضاً من أبعاد دستورية لم تتوانَ أوساطٌ واسعةُ الاطلاع بإزائها عن استحضارِ تجربة يناير 2011 حين اضطر «حزب الله»، لفرْملة مسار معاودة تكليف الحريري (كانت حكومته استُقيلت بضربة الثلث زائد واحد لقوى 8 آذار) الذي كان مضموناً عدَدياً ولدفْع الرئيس ميشال سليمان حينها لإرجاء الاستشارات (عاد وكُلف بموجبها نجيب ميقاتي) إلى إنزال ما سُمي بـ «القمصان السود»، في حين أن لجوء عون هذه المرة إلى قذْف عملية التكليف أسبوعاً كاملاً تمّ من دون «أسباب قاهرة» أو مَظاهر قسْرية، بل هو رُبط بكل وضوح بـ «الميثاقية الناقصة» وغياب غطاء مسيحي وازن لتسمية الأقوى في المكوّن السني.
وبحسب هذه الأوساط فإنه مع اعتذار السفير مصطفى أديب قبل 3 أسابيع فإن المبادرة الفرنسية تلقّت ضربةً في مضمونها، مع إصرارِ الائتلاف الحاكم على التشاور مع الكتل النيابية لتسمية وزرائها، فيما جاء إرجاءُ تكليف الحريري وما رافَقَه ليعكس نسْفاً للمناخ الذي أرْساه المسعى الفرنسي خلال زيارتيْ الرئيس إيمانويل ماكرون لبيروت، ما يطرح علامات استفهام كبرى حول أفق الأزمة اللبنانية وملفّ تشكيل الحكومة ومعهما مصير المبادرة برمّتها.
وما عزّز المخاوف من «القفزة في المجهول» أن الحسابات التي تحكّمتْ بالتأجيل جاءت مدجّجةً بخلفياتِ «المعركة» بين الحريري وباسيل كما بحساباتِ «حزب الله» في مقاربةِ الملف الحكومي. واعتبرتْ الأوساط أن عون وبعد ما أشيع عن «تحالف رباعي» على تكليف الحريري بقاطرةٍ يقودها الثنائي الشيعي والزعيم الدرزي وليد جنبلاط (وبمظلّة مسيحية يتقدّمها رئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية)، اختار «هزّ الطاولة» قاطعاً الطريق على تجيير عنوان الغطاء المسيحي لفرنجية، والأهمّ على الاستفراد بباسيل باعتبار أن من شأن منْح زعيم «المستقبل» ورقة تسميته قبل حصول DEAL حول التأليف أن يجعله متقدّماً خطوةً وبموقع أقوى للتفاوض حول شروطه التي لم يُظْهِر اتجاهاتٍ للتراجع عنها في ما خص مَن يسمي الوزراء المستقلّين.وفي رأي الأوساط أن الحريري بـ«تَجَرُّعه» كأس التأجيل وإصراره على إبقاء ترشيحه يقطع الطريق عملياً على كل المرشّحين المحتملين الآخَرين كما يُبْقي المبادرة الفرنسية «على قيد الحياة»، في حين أن عون وبالتأجيل الذي رَبَطه بالميثاقية أي بحصول الحريري على تأييد كتلة مسيحية وازنة (التيار الحر أو القوات اللبنانية) يرْمي ضمنياً إلى نيْل زعيم «المستقبل» موافقة «التيار الحر» والتفاهم على التأليف قبل التكليف أي عملياً «لبْننة» مسعى باريس واستدراجها الى حكومةٍ تكنو – سياسية.
ولم يكن ممكناً أمس تَلَمُّس إذا كان الحريري في وارد القبول بمبدأ تلازم التأليف والتكليف، أو بأي تسليمٍ بحكومةٍ يسمي السياسيون وزراءهم الاختصاصيين فيها بما يجعلها نسخة عن حكومة حسان دياب و«لقمة سائغة» للثورة التي تستعدّ غداً لتجديد نفسها والتي كان زعيم «المستقبل» نفسه استقال على وهجها في أكتوبر 2019.
وفي خلفية هذه المشهدية المستجدة، يقف «حزب الله» الذي غالباً ما يقال إنه المُمْسك بخيوط اللعبة والأقدر على تحويل المشكلات فرصاً والذي تسلّح بعد تأجيل الاستشارات بصمتٍ يضجّ بالقطب المخفية. فمَن هم على بيّنة من تكتيكاته، يقولون إن الحزب لن يجاهر بممانعته تكليف الحريري لاعتباراتٍ تتصل بالحساسيات السنية – الشيعية، لكنه غير متحمّس لهذا الخيار خصوصاً أنه يرسم علامات استفهام حول غموضٍ يكتنف توجهات زعيم «المستقبل» التي لم يناقشها مع الحزب.
وكشف هؤلاء أن «حزب الله» دَفَع مركب إرجاء الاستشارات من الخلْف وهو الذي لم يكن ممتناً من تحديد موعدها أساساً، وسط تكهناتٍ بأن الحزب الذي يتعاطى مع لبنان كجزء من البازل الاقليمي يميل إلى ترْك أمر الملف الحكومي إلى ما بعد الانتخابات الأميركية (3 نوفمبر) واستقرار أي إدارةٍ في البيت الأبيض. ولفت مَن تسنى لهم الوقوف على حقيقة موقف «حزب الله» إلى أنه لم يغادر «المربع الأول» ويأخذ على الحريري «الاختباء» وراء حركةِ عمومياتٍ تتصل بالمبادرة الفرنسية والاستظلال بها وكأن ماكرون قادِرٌ على تغيير التركيبة اللبنانية بالانقلاب على نتائج الانتخابات النيابية عبر الحديث عن حكومة اختصاصيين لا علاقة للكتل البرلمانية وأحزابها بهم. وفي حين ساد الصمت أمس «بيت الوسط» (دارة الحريري) غداة اتصالٍ كانت «الميثاقية» ثالثه مع عون، حرص رئيس الجمهورية الذي كان ربْط تأجيل الاستشارات «بطلب بعض الكتل ولبروز صعوبات تستوجب العمل على حلها»، على تقديم حيثيات مفصّلة لخطوته المثيرة للجدل عبر ما نُقل عن «مصادر مطلعة على موقف رئيس الجمهورية» من «أنّه لا يتحكم بموقف الرئيس أي سبب شخصي ولكن هناك مواضيع يجب أن تُدرس قبل التكليف كي لا يتم أسر البلاد بين حكومة تصرف أعمال ورئيس مكلف لا يؤلف»، ومضيفة: «الرئيس حريص على توفير أكبر قدر من التأييد النيابي للشخصية التي ستُكلّف نظراً لأهمية المهمات المطلوبة من الحكومة، مع الإشارة الى الحرص على تسمية الرئيس المكلّف بإجماع وطني ومناطقي (منطقة جبل لبنان». وإذ أوضحت «أنّ الخلاف ليس على المبادرة الفرنسية وما تحتويه من نقاط إصلاحية بل على طريقة تنفيذها»، اعتبرت ان «لا فيتو على الحريري ورئيس الجمهورية يلتزم بنتيجة الاستشارات».
وكان لافتاً أن مجمل هذا الصخب السياسي جاء تحت عيون مساعد وزير الخارجية الأميركي ديفيد شينكر الذي رعى انطلاقة مفاوضات الترسيم البحري بين لبنان واسرائيل والذي أجرى سلسلة لقاءات سياسية بينها زيارة للبطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي أشارت تقارير إلى أن المسؤول الأميركي أبلغ خلالها أن بلاده «ستتعامل مع الحكومة التي ستُشكّل مهما كانت طبيعتها وهوية رئيسها، لكنها تُفضّل حكومة شفّافة حيادية مستقلّة تتمتع بثقة اللبنانيين أولاً والمجتمع الدولي ثانياً».