ذكرى 17 تشرين: إقبالٌ أَمْ إدبار؟

المُرادُ هو أن يَنْشَأَ تمثيلٌ سياسيٌّ للحركةِ الشعبيّةِ لا أن يَنْشَأَ بديلٌ منها!

17 أكتوبر 2020
أحمد بيضون
أحمد بيضون

هذا التأهّبُ كلُّهُ للاحتفالِ بمرورِ عامٍ على انطلاقِ حركةِ السابع عشرَ من تشرين لا يبدو بشيرَ خير. فهو لا يأتي محطّةً في مَساقِ حركةٍ واضحةِ الاستِمرارِ، بيِّنةِ التجسّدِ اليوميِّ أو الأسبوعيّ، أو سريعةِ الاستجابةِ، في الأقلّ، لأطوارِ وضعٍ عامٍّ في البلادِ، لا يَزالُ يتَرَدّى.

بل إنّ تردّيهِ بَلَغَ ذُرىً مَهولةً لم يَكُنْ أقلَّها تفجيرُ العاصِمةِ الفريدُ في سجلّاتِ العَواصِم، وكانَ أرسَخَها تفاقُمُ الأزْمةِ المعيشيّةِ والوعْدُ الصريحُ بمزيدٍ من هذا التفاقمِ يصْحبُهُ تضاؤلُ الأملِ، مع مضيِّ الأيّامِ، في استعادةِ اللبنانيّينَ السيطرةَ المفترضةَ، بحسب القانونِ والعُرْفِ، على أموالِهم بعدَ أن أخَذَ يُقالُ بإصرارٍ متنامٍ أنّ افتراضَ وجودِها المستمرَّ محتجزةً في المصارفِ إنَّما هو افتراضٌ يزيده التأخيرُ وهْناً على وهْنٍ وأنّها، في واقعِ الحالِ، قد فُقِدَ جُلُّها وشارَفَتْ أن تُفْقَدَ كلُّها.

فإنَّ أدنى معالَجةٍ سياسيّةٍ أو ماليّةٍ للخرابِ الجاري وحبْلُهُ على غاربِهِ لَمْ يظْهَرْ لها أثَرٌ ولا وُضِعَ تدبيرٌ يُعْتَدُّ بهِ على سِكّةٍ معلومةٍ، لا في الوجهةِ الإجماليّةِ التي رسَمت الحركةُ الشعبيّةُ مَلامِحها العامّةَ ولا في وجهةٍ غيرَها.

إلى ذلكَ يتبدّى الوباءُ الذي ظَهَرَ عنْدنا ثَقيلَ الخُطى في أوائلِ أمْرِهِ وقد راحَ يُضاعِفُ وتائرَ انتِشارِهِ مُشْتَمِلاً كلَّ أسبوعٍ برداءِ المرَضِ والموتِ على مزيدٍ من الضحايا والمناطقِ وموشِكاً على إرداءِ النظامِ الصحّيّ المرهَقِ الذي باتَ قريباً من حدودِ طاقتِهِ في المواجهةِ وحدودِ توسيعِها… وهو ما يقرِّبُ الجائحةَ كلَّ يومٍ من الاستِواءِ هَمّاً متصدّراً لعامّةِ اللبنانيّين يطغى على سائرِ ما سبَقَهُ من هُمومٍ إذ يُحيلُها إلى عواملَ مشدِّدةٍ لوقْعِهِ، ملحقةٍ بأذاهُ، نازِعاً عنها صفةَ المكوِّناتِ الأصيلةِ لوضْعٍ شامِلٍ، متضافِرِ الأبعادِ ومتوجّبِ التَغْييرِ بحُكْمِ إلحاحهِ الغامِرِ المتزايد.

خمولُ الحركة
هذا كلُّهُ، مقتَرِناً بما أصبَحَت عليه الحركةُ الشعبيّةُ من خُمولٍ إجماليٍّ تمادى أشْهُراً عديدةً إلى الآنِ، يوحي لأوّلِ وهلةٍ، على الأقَلِّ، أنَّ الاحتفالَ بالذكرى السَنويّةِ الأولى لانطِلاقِ حركةٍ كَفَتْ لإطلاقِها شرارةُ الضريبةِ السفيهةِ المعلومةِ على التَخابُرِ بواسطةِ الواتسآب إنَّما هو احتِفالٌ بذكرى حركةٍ مضت وانقَضتْ وليس وقفةَ اعتِزازٍ ومحاسبةٍ للسلطةِ وللذاتِ في خضَمِّ حركةٍ جاريةٍ ومحطّةً في المواجهةِ تستَاْنِفُ الحركةُ فيها وفي غَدَواتِها تصاعُدَ وتائرِها.

هل يكفي هذا الهمودُ الظاهِرُ فعلاً للجزمِ ببلوغِ الحركةِ الشعبيّةِ هذه نطاقَ هزيمتِها الأخيرة أو باتّجاهِها للإفضاءِ إلى هذا النطاقِ ولو بقيت تعاندُ الإقرارَ بدخولِهِ بمبادرةٍ موضعيّةٍ هنا وأخرى هناك على ما كانَ حالُها في الأشهُرِ الأخيرة؟ لا أعرفُ جواباً يُطْمَأَنُّ إليهِ لهذا السُؤالُ ولا وقَعْتُ في ما يتردَّدُ بصددِهِ من كلامٍ كثيرٍ على صورةٍ لمستقبلِ الحركةِ القريبِ تَفْرِضُ وجاهَتَها.

بل يكفي استذكارُ ما كانت عليهِ شرارةُ انطلاقِها السابقةُ الذكْرِ من تواضُعِ الحالِ لردْعِ النبوءات. ولعَلّ أقصى ما يبيحُهُ هذا الاستذكارُ، ومعَهُ الاسترجاعُ العامُّ لمَسارِ الحركةِ، القَوْلَ بأنّ التوازي بين جسامةِ حدثٍ ما، موجبٍ للاحتجاجِ، وحدّةِ ما يستثيرهُ من احتجاجٍ فوريٍّ فعلاً وسِعَتَهُ ليس بالأمْرِ المحتوم.

عليهِ أستَحْسِنُ التوقُّفَ، بعيداً عن أيّةِ نبوءةٍ، عندَ حصادِ الحركةِ ومناسباتِ التريُّثِ والاحتدامِ فِيهِا وعِنْدَ ملمحٍ آخرَ بارزٍ في مسارِها هو التحوُّلُ في المكانةِ التي تبوّأَتْها مسألةُ تمثيلِها السياسيِّ أو قيادتِها بما تفتَرضُ من تنظيمٍ مشتركٍ مقبولِ الفاعليّةِ لما يُخَمَّنُ أنّهُ تشكيلاتُها أو أجنحتُها.

وأوّلُ ما يلاحَظُ بصدَدِ مَسارِ الحركةِ (وهذه ملاحظةٌ لم يولِها المحلّلونَ والنقّادُ ما تستحقّه من انتباه) إنَّما هو توزّعُ قوى الحركة، في تشكيلها العامِّ، إلى شرائحَ (نختَزِلُها هَهُنا في اثنتَيْنِ تيسيراً للتناول) مختلفةِ الاستعدادِ والتوجّهِ، متراكبةٍ على نحوٍ شبهِ هرَمِيٍّ، وهذا فضلاً عن توزّعها البيّنِ التفاوتِ ما بين المناطقِ والمدنِ والفئاتِ العمريّةِ والمنابت الطائفيّةِ والموائلِ الطبقيّةِ، إلخ. والشرائحُ التي نشيرُ إليها كان توسُّعُ أكبَرِها، أيْ قاعدةِ هرَمِها، أو انكماشُها محَكّماً في استتبابِ الصفةِ الجماهيريّةِ للحركةِ أو في تضعْضُعِها.

وهذا بحسب ما وَجَدَتْهُ هذه الشريحةُ داعياً لخروجِها إلى ساحاتِ الحركةِ أو داعياً، بِخِلافِ ذلك، لانكفائها واعتمادِها موقفَ التَرُيُّثِ والتَرَبُّص.

فهي قد أَبْدت مَيْلاً ظاهِراً إلى انتِظارِ المآلِ لدى كلِّ مَخاضٍ كانَت مبادرةٌ ما في معسكر السُلْطةِ تنشرُ في أوساطِ هذه الشريحةِ أمَلاً في إسفارِهِ عن جديدٍ لِجِهةِ التصرُّفِ بمعطياتِ الأزْمةِ العامّةِ وفي مواجهتها.

فكانَ أنّ هذه الشريحةَ، وهي القوامُ الأعظمُ للحركةِ كلّها، مالت إلى الصبرِ والترقّبِ في كلِّ مرّةٍ أعْلِنَ فيها عن خطّةٍ تُعِدُّها الحكومةُ لمداراةِ الأزْمةِ أو عن تفاوضٍ دخلت فيه السلطةُ ويُحْتَمَلُ إفضاؤهُ إلى أفُقٍ لحلٍّ ما…

وقد خابَ هذا النوعُ من التَعَلُّلِ في كلِّ مَرّةٍ وثبَتَ تكراراً أنّ ما تلوّحُ به السلطةُ لجمهورِ المنكوبين هذا لم يكن غيرَ سَرابٍ وأنّ السلطةَ (على ما كانت تُردِّدُ شريحةٌ أخرى من شرائحِ الحركةِ أضْأَلُ عَديداً من الآنفةِ الذكر) غيرُ مُسْتَحِقّةٍ، بسائرِ قواها وأجنحتِها، أدنى تصديقٍ مستأنفٍ أو فرصةٍ جديدة.

مع ذلكَ، تكرّرَ التريّثُ والتربّصُ الجماهيريّان موحيَيْنِ أنّ معظَمَ جمهورِ الحركةِ لا يأخُذُ، في سلوكِهِ الفِعْلِيِّ، بجذريّةِ الأسلوبِ والوجهةِ اللذين راحت تقترحهما الشريحةُ الأخرى في الحركةِ وهي شريحةُ “الطلائع”، وهذه، على ما سَبَقَت الإشارةُ إليه، أضيقُ نطاقاً من الأولى، من غيرِ أن تكونَ ممتَّعةً بتماسُكٍ في الصفوفِ يتعدّى التواطُؤَ على أعَمِّ الشعاراتِ ومن غيرِ أن يظهَرَ منها تنسيقٌ يُذْكَر للمبادرات.

وأمّا جذريّتُها فهي متحصّلةٌ من تتبُّعِ المعطَياتِ ومزاولةِ القراءةِ في الديناميّاتِ العامّةِ للنظامِ القائمِ وفي وقائعِ السياسةِ أو أيضاً من الموقعِ الأيدلوجيِّ أو التنظيمي.

جديدٌ مُعْتَبَرٌ غامضُ المصير…
لا يَفْترِضُ هذا التوزيعُ لقوامِ الحركةِ الشعبيّةِ بينَ شريحتين أساسيّتين فصلاً ناجزاً بينهما بل الأصحُّ افتراضُ قَدْرٍ من التداخل. ولكنّهُ لا يَفْتَرِضُ أيضاً نوعاً من الترابطِ الناجزِ تنْشَأُ منه قابليّةٌ من جهةِ القاعدةِ للاستِجابةِ المضمونة لما يَقْتَرِحُهُ عليها النُشطاءُ المُثابرون.

وهو لا يفتَرِضُ أوّلاً وأخيراً أيَّ اتّساقٍ أو وحدةٍ لكلٍّ منهما باستثناءِ معطى التفاوتِ البيِّنِ في الحجْمِ والتفاوتِ أيضاً في درجةِ الالتزامِ واستمرارِهِ وفي قربِ أوسعِهما من حدٍّ أدنى سياسيٍّ مطلبيٍّ وقربِ أضيقِهما من حدٍّ أقصى لجهةِ المضمونِ وطموحِه…

يَسَعُ المراقبَ أن يَجْزِمَ بالانفكاكِ الفعليِّ لأجنحةٍ معتبَرةٍ من الجمهورِ الواسعِ عن الولاءِ للقادةِ الطائفيّين وبتَقَبُّلِها رَهْنَ المَسارِ المحْتَمَلِ نحو الخروجِ من الأزْمةِ بتَخَطّي السدودِ المنصوبةِ بينَ قوى الطوائفِ (وليسَ باجتراحِ معارضةٍ مكسّرةٍ ينحصِرُ كلُّ شَطْرٍ منها بهذه أو تلكَ من الطوائف).

ولكنْ يتعَيّنُ على المراقبِ نفسِهِ أن يلاحظَ أيضاً دخولَ بعضٍ من القوى الطائفيّةِ المعلومةِ، على طريقتِها وفي مواقِعِ غَلَبَتِها، في صفوف الحركةِ، وهذا من غيرِ مراجعةٍ، أيّةً تَكُنْ، لسيرتِها أو لواقِعِ انخراطِها في النِظامِ القائمِ ولمضمونِ هذا الانخراط.

فإنّما صَدَرَ هذا الدخولُ عن ضعفٍ ظرفيٍّ في الموقِعِ السياسيِّ لكلٍّ منها وجدت أمَلاً في الإفادةِ من الحركةِ لتعويضهِ ولم يصْدُر عن تغيُّرٍ في لُزومِ أَيٍّ مِنْها منطقَ النظامِ الطائفيِّ جُمْلةً.

وأمّا الانفكاكُ الآنفُ الذكْرِ، بما يُضْمِرُ أو يُعْلِنُ من تقَبُّلٍ لمنطقِ المواطنةِ وإقرارٍ بإفلاسِ الصيغةِ الطائفيّةِ للنظام القائم، فهو المَكْسبُ الوطنيُّ الأعظَمُ من الحركةِ كلِّها ولَها.

وهو أيضاً ما ينشئ جسراً وطيداً بين شريحَتَيْها الأساسيَّتين اللتَين افتَرَضنا بينهُما ما سَبَقَ بيانُه من تمايُزٍ وتَداخُل.

وهذا مع العِلْمِ أنّ الشريحةَ الواسعةَ لا تُداومُ بِمُعْظَمِها على سلوكِ هذا الجسرَ بالانتظام المَرْجُوِّ مبدئيّاً على ما سَبَقَ بيانُه أيضاً…

ما خَطْبُ الشريحةِ الضَيّقةِ من بَعْدُ؟ لا ريبَ أنّها اجتذَبتْ إليها صفّاً معتبَراً من شبيبةِ البلادِ كانَ بعضُهُ قد اكتَسَبَ مراساً في حَراكِ 2015 وفي ما سبَقَهُ أو تَلاهُ من تَحرّكاتٍ “مدنيّةٍ” محصورةِ الهدَفِ المعْلَنِ ومن انتخاباتٍ بلديّةٍ ونيابيّةٍ شَهِدَتْها الأعوامُ الأخيرة.

وقد كان حُضُورُ الشبيبةِ غامِراً في جُمْهورِ الحَركةِ الشعبيّةِ الواسِعِ أيضاً.

وتَتَّسِمُ الشريحةُ الضيّقةُ، على الإجمالِ، بالمثابَرةِ وبأسْلوبٍ في المبادرةِ ينْحو إلى الكسبِ الرمزيِّ أو المعنويِّ الآنِيِّ معَ العِلْمِ برجَحانِ احتِمالِ العُنْفِ في المواجهةِ مع قوى القَمْعِ المولَجةِ بسدِّ المنافذِ إلى هذا أو ذاكَ من حُصونِ السُلْطة. ولَعَلَّ أبرزَ الجَبَهاتِ التي نشَطَت فيها تكراراً جبهةُ المنافذِ المفضيةِ إلى مجلس النوّاب.

على أنَّ هذه الشريحةَ حَمَلَت فَوْقَ ذلك عبْءَ إدامةِ الحركةِ، بينَ مواجهةٍ وأخرى أو بينَ تظاهُرةٍ وأخرى. وذلك بتولّي المسؤوليّةِ عن معظم المواقِعِ الثابتةِ للحركةِ في طولِ البلادِ وعَرْضِها، وعلى الأخصِّ منها الخيامُ بِما شَهِدَتْهُ من أنشطةٍ متنوّعة.

يبقى أنَّ هذه الشريحةَ نَفْسَها كانت، على غِرارِ الأخرى، متكسّرةً وبعيدةً عن التجانُس. فلا يُمْكِنُ افتراضُ التجانُسِ، ولو مع رعايةِ الاختلافِ في مقاديرِهِ وأصْعِدَتِه، ما بينَ جَماعةِ العسكَرِيّين المتقاعدين وهذه أو تلك من الخيامِ الطلّابيّةِ أو الحزبيّةِ مَثَلاً.

إلى ذلك ظهرَت ما بينَ المُثابِرينَ مجموعاتٌ لم تتردّدْ في التجوّلِ المنتظم بين مواقع الحركةِ المختَلفةِ، مع جُنوحٍ إلى اعتِمادِ العُنْفِ حيثُما حَلّت، وقَدْ حامت على بعضِها شبْهةُ الارتباطِ ببعضِ أجهزةِ السلطةِ أو بهذا أو ذاكَ من أعيانِها… وهذا على غِرارِ ما كانت عليهِ حالُ “القَبَضاياتِ” في زَمَنٍ مَضى.

جديرٌ بالملاحظةِ أيضاً أنّ شبيبةَ الحزب الشُيوعيِّ جهدت لإبقاءِ التركيزِ في الاحتجاجِ على القطاعِ المصرفيِّ، وفي صدارتِهِ المصرفُ المركزيُّ وحاكمُهُ، فيما أُلْحِقَ هذا البعدُ من أبعادِ الأزْمةِ العامّةِ، في المسلكِ الغالب للمجموعاتِ غيرِ الحزبيّةِ، بالمواجهةِ مع السلطةِ السياسيّةِ والنظامِ المشتمِلِ عليها جملةً.

وكانَ ظاهراً أنّ الحزبَ، مع جسامةِ حضورِهِ في الحركةِ كلّها، لا يرغبُ في الإخلالِ بموالاتِهِ الإجماليّةِ للتحالفِ الحاكمِ ولقيادة المحورِ الحزب اللهيِّ-العونيِّ هذا التحالفَ، على التخصيصِ، ولا يحبِّذُ اتّخاذَ الحركةِ الجاريةِ صفةَ المواجهةِ العامّةِ لهذا التحالف.

هذا في وقتٍ كان على الحركةِ أن تواجِهَ فيه، لا أجهزةَ القمعِ الخاضعةَ للسلطةِ السياسيّةِ وحسب، بل أيضاً عنفَ المحازبينَ لهذا أو ذاك من أطرافِها وللمِحورِ الشيعيِّ المتصدّرِ بينَ هذه الأطرافِ، على الأخصّ.

يبقى جلِيّاً، في كلِّ حالٍ، أنَّ كلّاً من الشريحتينِ اللتينِ استَنْسَبْنا التمييزَ بينهما في الحركةِ الشعبيّة إنَّما كانت، في واقعِ أمرها، شرائحَ وكُسوراً وأنّ الهرمَ الذي افْتَرَضْناه صورةً للحركةِ كلّها بقيَ، فضلاً عن كونِهِ هرماً مقطوعَ الرأسِ، بنيةً مخلخلةَ الأضلاعِ تتداخَلُ مكوِّناتُها إلى هذا الحدِّ أو ذاك وتسفرُ استجاباتُها المتغايرةُ لتحوّلاتِ الوضعِ العامِّ في البلاد عن ديناميّاتٍ تميلُ بالحركةِ نحو التمدّدِ أو الانكماشِ حجماً وطموحاً.

وقد سَلَفَ تقديرُنا أنّ بروزَ معارضةٍ ذاتِ صفةٍ جماهيريّةٍ وانتِشارٍ وطنيٍّ للنظامِ الطائفيِّ وما حفَزَ هذا البروزَ من تشخيصٍ للأزمةِ العاصفةِ بالبلادِ على أنّها أزمةُ هذا النظامِ أصْلاً وعلامةُ تهافتِهِ وانْهيارِ أهليًّتِهِ خليقانِ بأنْ يُعَدّا إنجازَ الحركةِ الشعبيّةِ الأعظم.

وهذا إنجازٌ طالَ انتِظارُهُ فعلاً إذْ كان الولاءُ العامُّ للمبدإ الطائفيِّ ولسَدَنَتِه يُثَبّطُ كلّ سعيٍ لفرضِ تشخيصٍ غيرِ مراوغٍ لما كان ظاهراً من تهالكٍ في أداءِ هذا النظام وما راحَ يُرَتِّبُه التهالُكُ على الدولةِ والمجتمعِ من خسائرَ متَواليةٍ لا أفُقَ لها إِلَّا الخرابُ العميم.

على أنّ هذا الإنجازَ نفسَهُ يبقى عُرْضةً للتآكُلِ ما دامَ أنّه لم يقترِنْ بفرضِ تغييرٍ يجانسهُ في النظامِ ولا، بالتالي، بإثباتٍ حِسّيٍّ لوجاهةِ هذا المنحى في التغيير.

يزيدُ من شرعيّةِ هذا التوجُّسِ أنّ التحلّلَ من القيدِ الطائفيِّ بدا مختلفَ الوطْأَةِ باختلافِ الطوائفِ وتشكيلاتِها السياسيّة.

وأهَمُّ ما ينبغي ذكْرُهُ في هذا الصددِ أنّ المحورَ الشيعيّ ذا الرأسين (وهو المستحوذُ على مقوّماتٍ مادّيّةٍ وسياسيّةٍ للقوّةِ والسيطرةِ لا يجِدُ نظيرُه في أيّةٍ من الطوائفِ الأخرى ما يكافئها) لم تُحْدِث في صفوفِهِ الحركةُ الشعبيّةُ ما أحدثَتْهُ من خللٍ واضطرابٍ في صفوفِ التشكيلَيْنِ المتصدّرينِ للطائفتينِ الأخريَيْنِ (المارونيّةِ والسُنّيّةِ) من الثلاثِ الكُبْريات.

وهذا على الرغم من نفاذٍ بقيَ محدوداً للاحتجاجِ الشعبيِّ إلى مضارِبِ هذا المحورِ وموائلِ نفوذه. يفسِّرُ اتّساعُ الشبكةِ المادّيةِ التي يوزّعُ التنظيمان الشيعيّان فوائدَها ومعه التمسّكُ المنتشرُ بامتيازِ السلاح وما يُثْمِرُه من سطوةٍ هذا التماسكَ البارزَ الذي أبداه التنظيمان المذكوران في وجه الحركة الشعبيّة. ولكنّ السطوةَ نفسَها، بفِعْلِها في الأوساطِ المحيطةِ بالتنظيمين، أيْ في “حاضنَتِهما”، تزيدُ عُسْراً قياسَ المدى الفعْلِيّ لتضعضُعِ الولاءِ الشيعيِّ للطائفيّةِ ونظامِها.

لا ريبَ، مع ذلكَ، في أنّ هذا التضعْضُعَ، وما يوافقُهُ من انكماشٍ في الولاءِ للتنظيمين، واقعةٌ لا يُسْتَهانُ بجسامتها.

بينَ التمثيلِ وتمثيلِ التمثيل
بقي سؤالُ التمثيلِ والقيادةِ أو التنسيقِ وقد ازدادت حدّةُ طرحِه على الحركةِ الشعبيّةِ مع مَيْلِها المتزايدِ أيضاً إلى الخمول.

ففي أوانِ ازدهارِها، عَرَضَت الحركةُ مُرادَها في مطالبَ لا تعدو بُنوداً ثلاثةً أو أربعةً ولا تستثيرُ غيرَ النَزْرِ من الجدَلِ. وبدا أنّ المعوَّلَ عليهِ إنَّما هو التفاعلُ ما بينَ تعاظمِ الحركةِ نفْسِها وخواءِ جعبةِ السلطةِ القائمةِ (وهي المستوجبةُ المحاسبةِ أَصْلاً عَمّا جَرى) من معالجةٍ للإعصار الذي ضربَ البلادِ.

وذاكَ أنَّ المُعالَجَةَ الناجعةَ كانَ لا بدَّ لَها أنْ تَعْتَبِرَ بِما جرى فتفضي إلى تغييرٍ جوهريٍّ في قواعدِ إنتاجِ السلطةِ العامّةِ وعمَلِها وفي قُواها وأشخاصِها بالتالي.

ولم يَكُنْ هذا التعويلُ على نموِّ الحركةِ واشتِدادِ وَطْأَتِها يدفعُ إلى الصدارةِ حاجةَ الحركةِ إلى قيادةٍ متبلّرةِ الهيئاتِ أو إلى تنسيقٍ متقدّمِ الصيغةِ، في الأقَلِّ، تَتَعَيَّنُ مَراجِعُهُ في سائرِ مواقعِ الحركةِ وتوضعُ لَهُ آليّةٌ معلومة.

كان صعودُ الحركةِ على النحوِ الذي حصَلَ فِيهِ يتكفّلُ، في واقِعِ الحالِ، بتهميشِ هذا النوعِ من الحاجاتِ وإن لم يَسْتَبْعِدْ وجودَها ولا الوصولَ اللاحِقَ إلى الإقرارِ بصِفَتِها الحَيَويّة والبَحْثِ في الصِيَغِ الموافِقةِ لَها.

وأمّا التكوينُ المُسْتَتِبُّ لِ”بدائلَ” سياسيّةٍ ذواتِ أسماءٍ وعناوينَ لمكوّناتِ السلطةِ القائمةِ وطاقَمِها المعلومِ فافْتُرِضَ ضِمْناً أن تُباشرَه انتخاباتٌ جديدةٌ برزَتْ على أنّها محطّةٌ رئيسةٌ في المساقِ الذي رسمهُ برنامَجُ الحركةِ، ولو أنّ التغييرَ المرجُوَّ من الانتخابات بقيَ رهناً بمتغيّراتٍ عِدّةٍ ولم يكن ليستطاعَ الجزمُ بدرجتِه سَلَفاً بطبيعةِ الحال.

على أنّ التوجُّهَ نحو الانتِخاباتِ لم يَفْرِض نفْسَهُ في واقِعِ السياسةِ وبقِيَتْ معَلَّقةً وظيفةُ “التكريسِ” (تكريسِ التَمْثيلِ والقِيادةِ) بَعْدَ أن نيطَتْ بهذه الانتخاباتِ ضِمْناً.

ليسَ هذا فحسبُ بل إنّ جملةَ ما طرحتهُ الحَركةُ من مطالبَ، فضلاً عن الانتخاباتِ: من حكومةِ المستقلّين ذاتِ الصلاحيّةِ التشريعيّةِ إلى برنامجِ الإصلاحِ الماليِّ واستردادِ الأموالِ المنهوبةِ إلى التمهيدِ لإصلاحٍ سياسيٍّ يَعْتَبِرُ بما ساقَ النظامَ القائمَ ومعَهُ البلادَ إلى المحنةِ الجارية… هذا كُلُّهُ راحت قوّةُ الدَفْعِ في اتِّجاهِهِ تتناقَصُ محطّةً بعد محطّة، إذ مالَت الشريحةُ العظمى من الحركةِ الشعبيّةِ، وهي مصدَرُ هذه القوّة، إلى الانكماشِ والتضَعْضُع.

في ظَرْفِ التَراجُعِ هذا، أَخَذَ السَعْيُ يزدادُ تسارُعاً إلى استحداثِ تمثيلٍ للحركةِ الشعبيّةِ ينَظّمُ الفواصِلَ في صفوفِها إن لم يفرِضْ لها هيكلاً قياديّاً واحداً، مجسَّداً في هيئاتٍ معلومة.

وقد طُرِحت مبادراتٌ ونُشِرت وثائقُ وأنشئت مواقعُ للتنسيقِ وحصَلَت أو تَقَرَّرَت لقاءاتٌ… وانتهى الأمرُ إلى نشوءِ “ائتِلافاتٍ” عدّةٍ أصبحَتْ ذواتَ أسماءٍ وبات معلوماً أنّ كلّاً منها يضمُّ “مجموعاتٍ” من “النشطاء” يفترَضُ أنّها ذواتُ سابقةٍ في هذا أو ذاك من مواقعِ الحركةِ الشعبيّةِ وماجرَياتِها.

ليس في يدنا ما يكفي من المعطياتِ لتقويم الحصيلةِ وهي لا تزالُ غيرَ مستقرّةٍ في كلِّ حال.

ولكنّ تنظيمَ صفوفِ النُشطاءِ، أي الشريحةِ الصغرى من الحركة، لا يمثّلُ ضماناً لاستجابةِ الحركةِ بأَسْرِها متى دعاها هؤلاء.

فَلَو أنّ هذا الضمان حاصلٌ لما ظهر ما هو ظاهرٌعلى الحركةِ من تَضاؤلٍ واختِلال. وهذا في ظرفٍ لم يتحقّقْ فيه شيءٌ من مطالبِ الحركةِ وازدادت الحالُ التي نشأت منها الحركةُ سوءاً على سوءٍ وبدا الأسْوَأُ ماثلاً بلا لَبْسٍ في الأفق المنظور.

فالأَسْوَأُ – على ما سبَقَت الإشارةُ إليه – لا يَضْمَنُ بِمَحْضِ حُصولِهِ أَعْظَمَ النُهوضِ الشَعْبيِّ ولو أَوْجَبَ هذا النُهوضَ مَبْدَئيّاً.

يَبْقى أنَّ المُرادَ، في كلِّ حالٍ، إنَّما هو أن يَنْشَأَ تمثيلٌ سياسيٌّ للحركةِ الشعبيّةِ لا أن يَنْشَأَ بديلٌ منها! وهو ما يقتضي أن تُمْتَحنَ الدالّةُ القياديّةُ بالقدرةِ على تعبئةِ القوامِ الحيِّ للحركةِ في الميادينِ وبإحسانِ التعريفِ بقضاياها وإحسانِ المتابعةِ لمآلِها وبثبوتِ الاعترافِ بهذا الإحسانِ وذاك من جانبِ الحركةِ نفسِها.

إلى الآنِ لم يحصُلْ شيءٌ من هذا ولكنّ الفرصةَ معروضة.

هي معروضةٌ والحاجةُ إلى اغتنامِها واضحةٌ وضوحَ حاجةِ البلادِ إلى الحركةِ نفسِها.

وعلى النجاحِ في اغتنامِها، حينَ يستَشْعِرُ جمهورُ اللبنانيّينَ المنكوبينَ جَدْوى محتملةً من الرجوعِ إلى الساحاتِ، يتوقَّفُ الجزمُ بأنّ “النشطاءَ” الآخذين في تنظيمِ صفِّهِم لا يُقْبِلونَ على التجهُّزِ للقيادةِ فيما الحركةُ التي لم تنشِئها قيادةٌ أصْلاً مصَمِّمةٌ على الإدبار.

المصدر المدن