حتى لا يُساء فهم السياق، من المهم الإشارة إلى أن الانهيار الثلاثي، المالي – النقدي – المصرفي، بدأ قبل سنوات، ولم يكن تاريخ 17 تشرين الأول 2019 سوى محطّة تربط بين الانهيار وتسارع تداعياته. قبل ساعات من هذا التاريخ كانت “الثقة” بين المصارف وزبائنها وبين الشعب والنظام، قد اضمحّلت، إلا أنها كانت موجودة وقائمة. بمعنى آخر، كان يمكن في تلك اللحظة، التوصّل إلى مسار إنقاذي أقل إيلاماً من الانحرافات التي رسمت المسار الحالي. ما حصل هو أن “الثقة” هُدمت على أيدي المصرفيين أنفسهم. ففي تلك الليلة، وبذريعة الاعتداء على واجهة أحد المصارف في وسط بيروت وقطع الطرقات، قرّرت جمعية المصارف الإغلاق الشامل. قرار لم تتخذه المصارف طوال سنوات الحرب الأهلية بكل جنونها.
17 تشرين 2019: ليلة سقوط النظام.. ‘المصرفي’!
تحت عنوان: “17 تشرين 2019: ليلة سقوط النظام… المصرفيّ”، كتب محمد وهبة في صحيفة “الأخبار”: ليلة الخميس 17 تشرين الأول 2019، بدأ سقوط النظام المصرفي في لبنان. في الأشهر التي سبقت، كانت هناك الكثير من المؤشرات التي أنذرت بهذا السقوط من دون تحديد توقيته. تلك الليلة لم تكن سوى “القشّة التي قصمت ظهر البعير”. المصارف لم تسقط وحدها، بل كان سقوطها امتداداً لسقوط النظام
هكذا هُدمت «الثقة» التي كانت تتقوّض تدريجاً منذ النصف الثاني من عام 2016 عندما أطلق حاكم مصرف لبنان رياض سلامة العنان لسلسلة ما يُسمّى «هندسات مالية» منحت المصارف أرباحاً طائلة، وأتاحت لكثير من المضاربين الاستثمار في إقراض الدولارات لمصرف لبنان لمدّة سنة ثم تحويل رساميلهم وفوائدها عند الاستحقاق، واشترت لسلامة المزيد من الوقت بكلفة باهظة سُدّدت من جيوب المودعين. لم تتوقف وتيرة الهندسات في الأشهر التالية، ولم يتوقف معها ارتفاع سعر الفائدة. القلّة التي انتبهت إلى ما يعنيه ارتفاع سعر الفائدة (بلغ سعر الفائدة على ودائع أغريت بالمشاركة في الهندسات نحو 22% على الدولار، وقبلها)، شكّلت أول شريحة نزعت الثقة عن المصارف وعن مصرف لبنان. فعند استحقاق توظيفاتها في هندسات 2016، أي في حزيران 2017، سحبت هذه الشريحة رساميلها من لبنان. ثم بدأت “الثقة” تسقط عند شريحة أخرى عندما أصدر مصرف لبنان في مطلع عام 2019، تعميماً يمنع فيه تسديد التحويلات الآلية عبر المؤسسات غير المصرفية بالدولار ويفرض تسديدها بالليرة. لاحقاً سقطت شريحة إضافية أيضاً عندما أصدر تعميماً في منتصف تموز يقيّد فيه التسهيلات المصرفيّة للزبائن. ثم صدر التعميم الأكثر شهرة (530) في نهاية أيلول 2019، والذي يحدّد السلع التي سيتم دعم استيرادها بدولارات مصرف لبنان. يمثّل هذا التعميم الذي ميّز بين أسعار السلع المدعومة وتلك المموّلة بدولارات السوق الموازية، أول اعتراف رسمي بوجود السوق الموازية لسعر الصرف، لا بل يعترف بشرعية ما لها وبنطاق عمل يشمل السلع غير المدعومة.