عندما استقال منذ عام سنحت له الفرصة مجدداً للعودة متسلّحاً بالورقة الإصلاحية التي وافق عليها مجلس الوزراء قبل استقالته. لم يوافق على التكليف حينها بحجة عدم تأييده من قبل الفريقين المسيحيين الأكبر، لكنه عاد ووافق اليوم. يبدو واضحاً إذاً أن القرار كان متخذاً بترك السفينة تواجه الغرق. واليوم، ولما كادت تغرق، يُراد تعويمها. عند الاستقالة قيل إن القرار أو “النصيحة” أتت من جاريد كوشنير، صهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب ومستشاره. هل العودة اليوم محمية بـ”نصيحة” أخرى، مرتبطة بمفاوضات الترسيم وأجواء تهدئة إقليمية، من اليمن إلى بغداد مروراً بسوريا ولبنان؟ من يعرف الحريري يدرك أن إصراره على الحصول على التكليف ليس وليد بنات أفكاره. من دون إيعاز لا يمكنه المغامرة. والإيعاز لا يمكن أن يكون فرنسياً فقط، وإن أكثَر من التعبير عن الحرص على المبادرة الفرنسية.
اللافت أنه بالرغم من الانقسام السياسي الكبير، إلا أنه تمكّن من الحصول على 65 صوتاً، تمثل عملياً نصف عدد النواب حالياً زائد خمسة. كتلة القومي كانت المفاجأة، كما النائبين جهاد الصمد وعدنان طرابلسي. أيّدوا الحريري، كما فعل النائب جان طالوزيان، مخالفاً موقف كتلة القوات. كتلة الطاشناق لم تتأثر بكل الضغوط لثنيها عن قرارها، فأصرّت على السير بتسمية الحريري. كان للرئيس نبيه بري دور رئيسي في إقناع كتلتَي “القومي” والطاشناق بتسمية الحريري، رغم محاولة السفير السوري، علي عبد الكريم علي، إقناعهما بالعكس. المفارقة أن ما سبق أن أعلنه نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي تحقّق. تمكّن الحريري من الحصول على 22 صوتاً مسيحياً بالتمام والكمال. وهذه تقارب 40 في المئة من عدد النواب المسيحيين الذين شاركوا في الاستشارات.
بالنتيجة، حصل الحريري على تسمية 65 نائباً، فيما لم يسمّ 54 نائباً أحداً. وهؤلاء نصفهم على الأقل لا يعترضون على عودة الحريري إلى السراي، وأبرزهم حزب الله. وبعد أن أبلغ الرئيس ميشال عون الحريري بنتيجة الاستشارات، بحضور بري، خرج الأخير، رافضاً استمرار التشاؤم على خلفية الخلاف الكبير بين الحريري والنائب جبران باسيل. قال إن “الجو تفاؤلي بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والرئيس سعد الحريري”. أضاف: “سيكون هناك تقارب بين تيارَي المستقبل والوطني الحر”. أما الحريري، فقد خرج ببيان مقتضب وضع فيه الخطوط العريضة لمرحلة التأليف. وتحدّث عن “تشكيل حكومة اختصاصيين من غير الحزبيين، مهمتها تطبيق الإصلاحات الاقتصادية والمالية والإدارية الواردة في ورقة المبادرة الفرنسية، التي التزمت الكتل الرئيسية في البرلمان بدعم الحكومة لتطبيقها”. كما أبدى عزمه “العمل على وقف الانهيار الذي يتهدد اقتصادنا ومجتمعنا وأمننا، وعلى إعادة إعمار ما دمّره انفجار المرفأ الرهيب في بيروت”، معلناً أنه سينكبّ على “تشكيل الحكومة بسرعة، لأن الوقت داهم، والفرصة أمام بلدنا الحبيب هي الوحيدة والأخيرة”.
لكن هل سيكون بالإمكان تشكيل حكومة بسرعة؟ ما حمله التكليف من عقد يؤكد أن التأليف لن يكون سهلاً. أمامه عقبات كبيرة، أولاها كيفية التعامل مع الحالة العونية في تلك المرحلة، وثانيتها كيفية التوصل إلى اتفاق على برنامج الحكومة.
باسيل كان رأى أن “هذا التكليف مشوب بضعف ونقص تمثيلي يتمثل بهزالة الأرقام وغياب الدعم من المكوّنات المسيحية الكبرى، ومن يحاول التغاضي عنه يحاول إعادتنا إلى الوصاية السورية وهذا لن يحصل”.
ما قاله باسيل من بعبدا يرسم خارطة طريق مرحلة التأليف: “التيار مع حكومة إصلاح من اختصاصيين برئيسها ووزرائها وجو المبادرة الفرنسية كذلك، ولذلك فإن تسمية شخص سياسي بامتياز، أدت إلى عدم تسمية التيار لأحد”. خلاصة قوله بأن التيار الذي انحنى أمام عاصفة التكليف سيقف في المرصاد في مرحلة التأليف. وهذا استكمال لموقف رئيس الجمهورية، الذي أعاد التذكير، في مؤتمره الصحافي أول من أمس، أن التأليف يمرّ من بعبدا، وإذا كانت الاستشارات ملزمة، فإن توقيعه هو ملزم لمن يودّ تأليف حكومة.
مشاورات التأليف بدأها الحريري أمس. استعاض عن الزيارات لرؤساء الحكومات السابقين باتصالات هاتفية، على أن يُفتح المجلس النيابي اليوم ليجري الرئيس المكلّف الاستشارات مع الكتل النيابية، تمهيداً لبدء التواصل الفعلي لتشكيل الحكومة. هنا لا تزال الأمور ضبابية. أمام الحريري خيار من اثنين، إما يسعى إلى تنفيذ الانقلاب الذي فشل مصطفى أديب في تنفيذه، فيذهب باتجاه المواجهة من الخاصرة الرخوة لفريق 8 آذار، أي التيار الوطني الحر، ومن خلفه رئيس الجمهورية، فيرفض التفاوض معهما أو التنسيق معهما بشأن الأسماء والبرنامج، وإما يسير بتفاهم كامل مع الكتل النيابية الممثلة في المجلس النيابية، تمهيداً لنيل حكومته الثقة، والبدء بالعمل للخروج من الانهيار كما أعلن.
إذا اعتمد المسار الأول فلن يكون مستبعداً أن يكون مصيره كمصير مصطفى أديب، الذي أثبتت الوقائع أن طرحه لحكومة يختار أعضاءها بنفسه ليس قابلاً للحياة، وستكون أمامه عقبتان كفيلتان بتطييره، الأولى عدم توقيع رئيس الجمهورية على أيّ تشكيلة لا يوافق على أسمائها، أو لا تكون له الحصة الأوزن في أسماء المسيحيين فيها، والثانية ثقة المجلس النيابي، التي لن تتمكن حكومة الحريري من الحصول عليها، إذا لم تكن الأكثرية مشاركة فيها بما تراه مناسباً.
مع ذلك، فإن الحريري إذا ذهب في خيار المواجهة، فلن يكون أعزلَ. هو يعتمد على مجموعة من العوامل التي يعتبر أنها تصبّ في مصلحته: رهان على ضغط فرنسي أو أميركي على عون للسير بتشكيلة يقدمها، «قدرته» على خفض سعر صرف الدولار، تمسك الجميع بالمبادرة الفرنسية، العقوبات الأميركية، والفكرة التي ردّدها في قصر بعبدا: أنا الفرصة الأخيرة.
في المقابل، إذا غامر الحريري بالرهان على تلك الخطوات، فإن الفريق الآخر لن يكون مكبّل اليدين، دستورياً وسياسياً. يكفي أن رئيس الجمهورية شريك في التأليف وفي التوقيع، ومن دونه لا شرعية لأي حكومة. ولذلك، فإن مصادر معنية تؤكد أن لا مجال لتكرار تجربة مصطفى أديب. وعندما طرح الحريري نفسه مرشحاً طبيعياً كان يدرك أن لاءات أديب لا يمكن أن تؤسس لإطلاق مسار جدي لتشكيل الحكومة. لذلك كان بديهياً أن يكون الحريري قد تجاوزها عندما طرح ترشيحه. هذا ما حصل بالنسبة إلى الحصة الشيعية التي اتفق على أن يسميها ثنائي حزب الله وأمل، وهذا ما حصل مع وليد جنبلاط الذي وعده بحقيبتين إحداهما وازنة. وحده التيار الوطني الحر تعامل معه الحريري كأنه غير موجود. لكن إذا كان الأمر شخصياً مع جبران باسيل، فهل يمكن أن يبقى كذلك عند اختيار الوزراء المسيحيين؟ مصادر معنية تجزم أن ما يصح على غير التيار يصح على التيار أيضاً. ولذلك، فإنه لا بد أن يكون حاضراً في مفاوضات التأليف بغضّ النظر عن الآلية. ذلك أمر لا يحتمله الحريري على الأرجح، لكن في مطلق الأحوال فإن رئيس الجمهورية سيكون له بالمرصاد. البداية اليوم من مجلس النواب. فهل سينجح بري في جمع الحريري وباسيل، لتكون حكومة الحريري الرابعة نسخة ظكمزيدة ومنقّحةك عن حكومة حسان دياب؟”.