منذ اعتذار السفير مصطفى اديب عن تشكيل الحكومة توقف عدّاد فرنسا عن احتساب الوقت للبنان لتنفيذ المبادرة التي تقدم بها رئيسها إيمانويل ماكرون. الاخير لم يعد يُسمع له صوت ولم يصدر عنه اي موقف تجاه لبنان منذ خطاب التأنيب الذي خرج به على اللبنانيين. تحتل الاوضاع الداخلية لبلاده صدارة متابعاته اما الوضع في لبنان فمرهون بتشكيل حكومة لم يعد الفرنسي معنياً بتفاصيلها بقدر ما هو معني ببرنامج عملها استعداداً لمؤتمر “سيدر” وما يليه.
المبادرة الفرنسية لم تنته، يقول المطلعون عن قرب على الموقف الفرنسي، غير ان محركات فرنسا توقفت عن العمل لأسباب تتعلق بلبنان واخرى ترتبط بالوضع داخل فرنسا نفسها. تنشغل باريس في معالجة تداعيات الاعمال الارهابية التي تعرضت لها وارتدادات الاساءة الى النبي وما تبعها من ردود فعل جعل علاقة الدولة العلمانية على المحك مع الاسلام. محرج ايمانويل ماكرون بين ان يتلقف مشاكله بروية داخلياً وأن يطوق ردود أفعالها الخارجية، في هذا الوقت لا يمكنه التراجع بعدما كان حجز خط عودة بلاده وأوروبا جمعاء الى دول المشرق العربي من خلال البوابة اللبنانية. ولا ان يسحب مبادرته ويخلي الساحة للأتراك الذين يتصرفون في لبنان وكأن تاريخ وجودهم على أراضيه يعود إلى أزمنة خلت. هذا فضلاً عن مصالح فرنسا ذاتها الاقتصادية وحصة شركاتها من النفط في ضوء المفاوضات التي يخوضها لبنان مع اسرائيل حول ترسيم حدوده البحرية.
كلها مؤشرات تجعل نعي المبادرة الفرنسية في غير موقعه. بدليل أن فرنسا لم تعلن ذلك صراحة بعد. والمعنيون بالملف اللبناني لا تزال خطوطهم مفتوحة وهم على تواصل ولو بحده الادنى وليس بشكل كامل. في وقت تتابع السفيرة الفرنسية الجديدة آن غريو جولاتها التعارفية على المسؤولين اللبنانيين وسيندرج في سياقها زيارة مرتقبة الى مسؤول العلاقات الدولية في “حزب الله” الحاج عمار الموسوي بطبيعة الحال.
يؤكد المعنيون ان المبادرة الفرنسية لا تزال قائمة ولو بزخم أقل، وان فرنسا وان كانت لا تتدخل في تشكيل الحكومة بشكل مباشر، لكنها تربط تفعيل مبادرتها بتشكيل هذه الحكومة وقيامها بالاصلاحات اللازمة والتي سبق ونصت عليها الورقة الفرنسية. لكن فرنسا وبخلاف الانطباع الذي تحدث عنه البعض لم تنقل تعهداً فرنسياً للرئيس المكلف تجاه تسوية العلاقة مع دول الخليج. كل ما في الامر ان المملكة لم تتدخل والتزمت الصمت ازاء مشاورات التكليف وكان لافتاً ان سفيرها في لبنان وليد البخاري لم يزر الرئيس المكلف وهو غادر لبنان في اجازة. وكان سبق ذلك، ضجة حول مقال جريدة “المدينة” الشهير الذي تحدث بايجابية عن عودة الحريري، ثم تم سحبه بعد ساعات.
وخليجياً ايضاً رصد انسحاب هادئ للسفير حمد الشامسي الذي يغادر لبنان الى مصر حيث عين سفيراً لبلاده هناك، في وقت تحدثت معلومات موثوق بها ان الامارات تنوي تقليص عديد بعثتها الديبلوماسية في لبنان وحصر التمثيل بقائم بالاعمال في الفترة المقبلة، وهو ما يعد مؤشراً سلبياً تجاه لبنان الذي حذفته دول الخليج من قائمة اهتماماتها، وتجاه الحريري الذي لم يتلق اي رسالة دعم خليجية بعد لا مباشرة ولا بالواسطة.
وفي ظل مثل هذا الانغلاق العربي على لبنان تغدو مهمة الحكومة المقبلة بالغة التعقيد ولا سيما لناحية توقع اي مساعدات ان من خلال “سيدر” او خارجه. ولبنان المتلهي بتركيب حكومة محاصصة ستكون طاولتها اشبه بمنصة ملاكمة تشهد، بعيداً من المشهد الحكومي، مخاضات عدة منها ما تمّ تجاوزه ومنها المرتقب سواء في الاقتصاد أو في السياسة أو في الأمن.