كتب منير الربيع في “المدن”: انقسم اللبنانيون شطرين في ما يتعلق بالعقوبات الأميركية على جبران باسيل: شطر وافق عليها بلا نقاش أو جدال في كلام السفيرة الأميركية في لبنان دورثي شيا، وردها على باسيل. وشطر آخر صدّق باسيل في مناظرته وناصره.
لا شك في أن العقوبات أحدثت دوياً كبيراً في لبنان، وستكون لها انعكاسات كثيرة. لكن الأهم منها هو ما جرى كشفه في السجالات الدائرة بين الطرفين.
رغبات باسيل المتناقضة
وهنا لا بد من البحث عن المزيد من التفاصيل التي توضح حقيقة الأمر، بلا تبنّي وجهة نظر أي منهما.
ولا بد من تسجيل ملاحظة على موقف السفيرة الأميركية التي قالت إن باسيل هو الذي أبدى رغبة في فك تحالفه مع حزب الله، وضرب موعداً في الشهر المقبل، لكن الإدارة الأميركية لم تمنحه الفرصة ففرضت عليه العقوبات.
أظهر كلام السفيرة الأميركية هذا كأنما بلادها لا تطلب انفصال باسيل عن الحزب، وفرضت عليه العقوبات في شأن آخر. ورأى المعارضون للسياسة الأميركية ومتبنو وجهة نظر باسيل، أن هذا ضعفاً في موقف السفيرة، التي تحبذ بلادها انفصال باسيل عن حزب الله. وأيقن هؤلاء أن باسيل مظلوم، وجرى الضغط عليه للانفصال عن حليفه، فلم يفعل، ففرضت عليه العقوبات.
في المقابل لا يحتاج المرء إلى عناء للتأكد من أن باسيل كان يريد الحفاظ على علاقته بواشنطن وتعزيزها، ولو اقتضى ذلك خلافاً واختلافاً مع حزب الله. وهو في الحقيقة عبر عن ذلك في ظهوره التلفزيوني يوم الأحد الماضي 8 تشرين الثاني الجاري. فباسيل بطبعه لا يريد خسارة شيء، بل ربح كل شيء، أو شيئين متناقضين: حزب الله وأميركا، وجمع سوريا وإيران وروسيا والصين وغيرهم.. معهما، لكنه خسر كل شيء.
تحفيز الانشقاق عليه
لا بد من الإشارة أيضاً إلى أن موقف السفيرة الأميركية تضمّن تأكيداً على أن بلادها لا تفرض عقوبات على التيار الوطني الحرّ. وهذا سياسياً يعني الكثير، ليس أقله تحفيز مجموعات وكوادر في التيار على الانشقاق والاستقلال عن جبران باسيل.
والمقصود حتماً ليس شامل روكز، بل آخرين بما فيهم نواب في التكتل العوني. وهذا موقف يعزز في المرحلة المقبلة جهات وشخصيات لديها استعداد للانشقاق. وهي أصلاً معروفة، وتعقد اجتماعات كثيرة تحظى باهتمام أجنبي.
القفز بين الحبال
وهناك اعتبارات أميركية ترى أن العقوبات جاءت على باسيل بعد فشله في تنفيذ التزامات كان قد تعهد بها. ولا شك في أنه كان يحاول اللعب على حبال كثيرة، والاستثمار في الوقت، ريثما تصدر نتائج الانتخابات الأميركية. فلو فاز ترامب لاتخذ المزيد من الخطوات التي تشير إلى اختلافه مع حزب الله. أما وقد فاز بايدن، فسيستثمر باسيل في المزيد من الوقت، ريثما تتضح الصورة.
ورفضت الإدارة الأميركية أن تنصاع للعبة باسيل هذه، فبادرته بالعقوبات. ومستقبلاً سيُشيّع لقناعة تقول إنه قدّم تعهدات كثيرة لواشنطن، لكنه لم يلتزم بها، ولم ينجح في تطبيقها.
أسير حزب الله وملفاته
واشنطن لا تحيل هذا إلى حرصها على حزب الله ولا على وحدة لبنان الداخلية. بل تحيله إلى خوف باسيل من حصول أي شرخ بينه وبين حزب الله، ما قد يؤدي إلى فضح الكثير من ملفاته.
وهذا يعني أنه أسير حزب الله، وليس حليفاً فقط، كما أن حساباته وطموحاته الرئاسية لا بد أن تمر بموافقة الحزب نفسه.
وكان باسيل قد حاول تقديم أوراق اعتماده لأميركا في أكثر من محطة، منذ ما قيل عن إطلاق عامر الفاخوري، إلى تشكيل الوفد المفاوض حول ترسيم الحدود وتضمينه شخصيات مدنية، وما سيلي بعد الاتفاق على الترسيم.
لكن الأميركيين تأكدوا أنه غير قادر على تنفيذ أي من هذه العناوين، إضافة إلى زهوه باللقاءات المطولة التي عقدها مع مسؤولين أميركيين، أبرزهم ديفيد هيل على مدى ثلاث ساعات تخللها غداء، ومع السفيرة شيا نفسها أيضاً في الفترة الأخيرة، وما عمد إلى تسريبه من أجواء إيجابية بينه وبين المسؤولين الأميركيين.
صدمات مسيحية متلاحقة
ولا شك في أن أميركا ضغطت على باسيل لينفك عن حزب الله. وهو أبدى تجاوباً مقابل شروط تتعلق بالضمانات السياسية والمستقبلية، مع تركه هامش المناورة لنفسه. لكن مناوراته لم تنفع. والدليل مبادرته بالعقوبات.
أما هدف أميركا من انفصاله عن حزب الله، فهو ترك الحزب معزولاً، وتسليط سيف العقوبات على بيئته وعلى اللبنانيين جميعاً، وصولاً إلى زرع شقاقات داخل البيئة الشيعية، وترك الحزب إياه وحيداً على الساحة اللبنانية.
أما وقد طالت العقوبات باسيل، فستكون لها تبعات أخرى: معاملته على غرار ما تعامل أميركا حزب الله. وعزله وإضعافه داخل بنية تياره. لذا فإن كثرة من رجال أعمال التيار العوني وكوادره، سيعيشون صراعا ذاتياً حقيقياً، نظراً لتهديد مصالحهم، وما يزول من امتيازات تاريخية للمسيحيين في لبنان بفعل انهياراتهم المتلاحقة.