“المسيحيون هم الأصل والوصل والفصل في منطقتنا.
وبرحيلنا لا نهجرُ المنطقة، بل الرسالة، ونجفّف منبع الرسل. قدرنا الصليب.
وخيارنا طريق الجلجة. وبغيابنا ستكون ظلاميّة تنتقل إلى العالم وتتمدد، فتحاربُنا وتحاول قطع نسلنا أينما كنا. وإيماننا بقوة القيامة هو الذي يدفعنا إلى أن نقوِّم القيامة بسبب ما نراه من استهتار واستخفاف بوجودنا في الشرق وفي لبنان”.
هذان نموذجان من ما يقوله ويردده وريث الشِّيعة السياسية المسيحية العونية في لبنان، السيد جبران باسيل، فيردد خلفه كورسه من نواب ومقدمي شيعته: “سنحمل معك صليب لبنان.
هذا قدرنا. وهذه إرادتنا ورسالتنا”.
أما إذا قُتل جنود من الجيش اللبناني في مطاردات أمنيّة ضد خلايا أجهزة غامضة ومجهولة – وتظل غامضة ومجهولة بعد قتل بعض أفرادها، واعتقال عشرات – فيغرّد وارث الشيعة إياها: “مع ارتفاع الصليب، ارتفع أربعة جنود إلى مرتبة الإستشهاد في موجة إرهاب داعش”.
وفي احتفال تتويجه رئيسا بالتزكية على شيعته أو “تياره”، قال الرئيس المتوج باسيل: “إن غبتَ أيها التيار، غاب المسيحيون في الشرق.
وإن غبت أيها التيار، غاب لبنان”.
وربما نسي صاحب الصلبان ومنشدها أن يتابع ويقول: “وغاب الصليب”.
وقصة جبران باسيل مع الصليب، ليست كلامية فحسب.
فهو منذ ذاع صيته وتألق نجمه في شيعته المسيحية، لم يتوقف عن رفع خشب الصلبان وحديدها ونصبها على التلال والقمم في أعالي بلدات مسيحية كثيرة في بلاد البترون وجبيل وكسروان.
وهو يستعين أحياناً برافعات الجيش اللبناني لنصبها كبيرة عملاقة على تلك التلال والقمم. فيقيم في المناسبة احتفالات وعراضات لشيعته وأنصاره في تلك البلدات.
ثم يتلو عليهم آياته البيّنات، ويكتب مغرداً في مديح الصلبان، كأنها منشآت حيوية للطاقة الكهربائية والمياه والسدود، وسواها من الخدمات التي تؤمن حياة كريمة وأعمال للسكان.
وصلبان جبران باسيل شعيرة كلامية وشارات مادية ورمزية ينصبُها وينشرُها في أعالي البلدات المسيحية. وهي تشبه تماماً في رفعها وتكرارها اللفظي شعار وشعيرة سيده وولي شيعته، حزب السلاح والحرب الدائمة: “هيهات منا الذلة”.
والحزب هذا يطلق صيحاته وصرخاته تلك لتواكب مسيرته الحربية المظفرة في الشرق إياه الذي يحمل باسيل وشيعته صليبه على ظهورهم في كل يوم وساعة، مبشرين هادين ومخلصين… ليبقى هذا الشرق، فلا يغرق في الظلامية.
وها هو نورهم يعمُّ مشعشاً في لبنان وسوريا والعراق وغزة، وصولاً إلى اليمن. أما من لا يبصرون الخيرات المتدفقة والأنوار المشعشة في هذه البلاد، فعميانٌ أو يعشقون القحط والمذلة والظلام، عشق الخونة والشياطين والمغشي على أبصارهم.
وفي إصرار جبران باسيل على هذره في استعادة رمزية الصليب، معانيه وكناياته في العقيدة الدينية المسيحية، وفي اعتباره أن ما يهذره قول سياسي يناسب الأحوال والموضوعات والأوقات كلها، فقرٌ وإدقاع في المخيلة والعبارة، فوق المروق الشعبوي الشائع والسائد مذهباً سياسياً في كثرة من بلدان العالم وجهاته.
وهذا مذهب متناسل ومتجدد، لإيهام فئات وجماعات انفكّت وتذرّت روابطها ولحماتها الاجتماعية والسياسية لأسباب شتى، فارتكست وانكفأت إلى هويات وعنصريات وشيع، بأن الكلمات والشعائر والطقوس والرموز، هي الفعل والطريق المؤديان إلى الخلاص.
والصليب الباسيلي ليس أكثر كلمة تحضر جزافاً ومحوراً مركزياً في عبارته عن أحواله وأحوال شيعته السياسية العونية في مسيرتها الكبرى المستمرة في أوهامها النضالية الخلاصية، منذ اعتلى أو طُوّب مؤسسها ورائدها وعرابها الطوطمي، رئيس حكومة عسكرية، فنزل وأقام في قصر بعبدا الرئاسي سنة 1988، وطُرد منه، وعاد إليه عنوة سنة 2016، ومكث فيه حتى اليوم.
والأرجح أن مغادرته تعزُّ عليه ويرفضها، إذا لم يورّث القصر لصهره المحبوب، بل المعشوق. وهو في هذا شبيه دونالد ترامب الذي جعل بناته وصهره من مقربيه ومستشاريه في البيت الأبيض.
وها هو يرفض مغادرته وإخلاءه للرئيس الجديد المنتخب.
أما حين يستعيد جبران باسيل كلمة الصليب بصوته ونبرته، فيتراءى لسامع وقارئ تغريداته وبياناته الصلبانية، أن ما يتردد في مخيلته، ليس سوى ما يردده الأطفال المسيحيون، عندما يقولون لأمهاتهم وآبائهم: “وحياة الصليب”.
وذلك لحمل أولياء أمرهم على تصديق ما يقولونه ويفعلونه، رجاء نجاتهم من قصاص محتمل قد ينزلونه بهم، جرّاء أكاذيبهم وارتكابهم أفعالاً خاطئة أو شائنة.
فالسياسة الباسيلية، ومصدرها العوني الأول والمؤسس والطوطمي، ليست سوى رسالة أو نبوءة صوفية طفلية مفبركة وكاذبة.
وهي اصطنعها رائدها الضابط المأمور، عندما نزلت عليه الرئاسة من غامض علمه، فلم يصدقها وأغشي عليه مذّاك، وتملّكه عارض من هذيان طفلي سلطوي مقيم.
وقد حدث هذا للضابط في لحظة سياسية لبنانية مسيحية مأزومة مؤاتية وملائمة لادعاء النبوة وبعثها في الناس والخلق من حوله، للسير خلفه وفي ركابه إماماً مخلصاً على طريق الجلجة.
ولأنه كذلك (أي ضابط أصيب بعارض هذيان سلطوي طفلي مفاجئ)، ولان رسالته النبوية الخلاصية مصطنعة ومستعارة وكاذبة – وما من رسالة خلاصية أصلاً إلا هذه حالها – كان لا بد من تحويل تلك الرسالة إلى أمثولة ومحفوظات طفلية راسخة، تعيش وتتردد على نحوٍ أو مثالٍ ديني بسيط في مخيلة الأطفال ومحفوظاتهم.
****
وهذه حال الشيعة العونية منذ عاد مؤسسها وإمامها من فرنسا سنة 2005. ولأن صولاته وجولاته أتعبته أخيراً، سلّم إمامتها وصليبها لصهره المهذار جبران باسيل.
وصلبان جبران باسيل ورهطه، ليست سوى لفظة يرددونها في معاركهم الوهمية الطاووسية، كما رددوا عبارة “وحياة الصليب” في طفولاتهم.
كأنما العونية السياسية إقامة مستمرة في الطفولة وتثبيت عليها، وهيهات من أطفالها الذّلة.