أضاف: “بشكل دائم عبر التاريخ تظهر في هكذا أوضاع مشاريع سياسية تغذي الشعور بالخوف عند الجماعة، لأن الجماعة الخائفة لا تفكر بل تتصرف غرائزياً وتصبح ادارتها أسهل من قبل من يدعي حمايتها”.
لا هوية إيجابية من دون قيم
بو عاصي دعا الى الهدوء والوعي والتشبث بالقيم في هذا الظرف العصيب وأكد ألّا هوية ايجابية من دون قيم. كما عرض في اللقاء لمدى تأثير الحوادث التي يمر بها لبنان من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على هويته. فقال: “بالمطلق إن اهم شيء بتاريخ البشر والشعوب هو الهوية، فهي تتحكم بحياتنا الفردية والجماعية لذا نتمسك بها وصولاً الى حدّ الموت في سبيلها. لكن رغم اهميتها القصوى يبقى تعريفها صعباً، فهي شعور بالإنتماء الى جماعة ما وثقافة ما وتوصيف هذا الشعور ليس بالامر السهل لأنه ينبع من داخل الانسان”.
تابع بو عاصي: “الهوية هي المرجع الذي يستند عليه الفرد لتعريف ذاته وعلاقته بالآخر ومجموعة قيمه وجذوره. صحيح ان هذا المرجع ثابت، لكن الهوية كما كل شيء في هذه الدنيا متحركة. الحركات الديمغرافية عبر التاريخ تغيّر الهويات كما أن الاحتياجات تغيّرها جزئياً وفي بعض الأحيان بالإتجاه المعاكس. مثال على ذلك مقولة La Grèce captive a captivé Rome أي اليونان خسرت أمام روما عسكرياً ولكنها إنتصرت ثقافياً وأصبح جزءاً من الهوية الرومانية – أي الايطالية والاوروبية اليوم – يونانياً في الميثولوجيا والدين والفلسفة…”.
الهوية الجامعة مرتبطة بإداء الدولة وإنتاجيتها
كما أشار بو عاصي الى تعدّد جوانب الهوية في لبنان، مضيفا: “نحن بلد ناشئ كدولة وليس كوطن، فدولة لبنان الكبير عمرها مئة عام والاستقلال 77 عاماً. يوجد قلق على الهوية فيه، فهو مكوّن من عدة جماعات لكل منها هويتها. والسؤال الاشكالية هو: هل ستستطيع هذه الجماعات التوصل الى هوية جامعة أم سيبقون مجموعة هويات؟ وهل الهوية الجامعة تعني أن هوية الجماعات سوف تضمحل؟”.
أضاف: “لا تزال هوية كل جماعة مهمة لأفرادها. هذا مصدر غنى للبنان ولكن في الوقت نفسه من أسباب صعوبة إدارته كدولة بشكل فاعل ومنتج. ومن الانعكاسات السلبية لذلك السعي لإرتباطات خارجية لمختلف الجماعات اللبنانية عبر التاريخ مما يساهم في تشتيت الهوية الجامعة ويسبّب بشلل في القدرة على إتخاذ قرارات أساسية كالإصلاحات والنهوض بالدولة، وصولاً الى محاربة الفساد”.
كذلك، لفت بو عاصي الى ان إشكالية الهوية الجامعة وهويات الجماعات والتأثير البديهي على كيان الدولة وادائها تظهر جلياً في دول عدة وليس فقط في لبنان، مؤكداً أن الازمة التي تعصف بلبنان اليوم تؤثر سلباً على الهوية الوطنية وتعزز هوية الجماعات، موضحاً: “الهوية الجامعة مرتبطة الى حد كبير بأداء الدولة وانتاجيتها وهذه الاخيرة اثبتت فشلها حتى الان ما إنعكس ضعفاً في الهوية الوطنية. هذا يؤدي الى تقوقع على مستوى الهوية داخل هوية الجماعات وصولاً حتى الى هوية الأفراد وهذا ما يظهر حين نرى أشخاصاً يهاجرون بحثاً عن السعادة والاستقرار بعدما فقدوا الامل بأن تؤمن لهم هوية الجماعات او الهوية الجامعة متطلبات حياتهم وامنهم وازدهارهم”.
ورداً على سؤال عن مدى أهمية تطوير الرياضة لتكون جزءاً من الهوية، أجاب: “هناك قول مأثور “اذا اردت ان تعرف قيم بلد إبحث عن سجونه ورياضته” أي إبحث اذا السجين محترم كإنسان والرياضي شغوف وناجح. الرياضة ليست تمريناً جسدياً فحسب بل هي ايضاً روح تتشابك فيها المنافسة واحترام الاخر كما التحدي الايجابي وقبول الربح والخسارة. الرياضة تقترن بصفات الارادة والصلابة والمثابرة، الى جانب تأثيرها الايجابي على الصحة الجسدية والنفسية. كما ان الرياضة ضمن المنتخبات تعزز الشعور الوطني. وهنا أدعو الجميع لممارسة الرياضة مع إحترام قواعد الأمان وتفادي الإصابات”.
القوانين لا تلغي الواقع الإجتماعي والثقافي
إعتبر بو عاصي أن اللامركزية أو الفدرالية هي أحد انواع نظام الحكم لأي دولة ولا نموذجاً واحداً منها، معتبراً أنه على الشعوب البحث عن النظام الذي يتلاءم مع واقعها.
أما عن لبنان، فإعتبر أن هناك ثلاثة تحديات أمام الفدرالية: التقسيم الجغرافي، الامكانيات المالية والتوازن الديمغرافي ضمن كل منطقة. اردف: “لا اجوبة واضحة عنها فهذه هي التحديات حتى الآن في لبنان. بالتأكيد إدارة البلد لامركزياً أفضل للناس بحيث تكون الادارات أقرب الى احتياجاتهم من الادارة المركزية التي اثبتت فشلها بسب عدم القدرة أو النية على إتخاذ قرارات لحلول مستدامة. ثمة أسئلة تطرح: هل اداء اللامركزية سيكون أفضل في مسألتي ضبط السلاح غير الشرعي والانهيار المالي؟ هل مطروح فدرالية على أساس مناطقي كألمانيا أو جماعي-ثقافي كإسبانيا أو كبلجيكا؟ قبل الانخراط في مشروع اللامركزية يجب علينا ان نحدد اطارها وصلاحياتها وامكانياتها وان نعي أنها ليست حلاً سحرياً لأن كل دولة لامركزية مبنية على دولة مركزية”.
ورداً على سؤال، أجاب: “كلمة علمنة حمّالة أوجه. نشأت في فرنسا بعد الثورة الفرنسية لفصل الدين عن الدولة في بلد وحدويّ بإمتياز حيث كان 95% من السكان من المسيحيين الكاثوليك متجانسين عرقياً ويتكلمون نفس اللغة وعاداتهم متشابهة. نحن بلد متأثر بفرنسا ولكن لا نشبهها. تعددية لبنان ليست طائفية بالمعنى الديني والمذهبي Confessionnelle بل جماعية بالمعنى الثقافي والمجتمعي Communautaire. هل نسعى بطرح العلمنة الى فصل الدين عن الدولة أم الى الغاء الطوائف؟ القوانين لا تلغي الواقع الإجتماعي والثقافي التعددي. حتى ولو فصلنا الدين عن الدولة في لبنان فإن ذلك لن يلغي الواقع الطائفي، ليس من الجانب الديني فحسب، بل الثقافي والاجتماعي وانعكاساته السياسية. الهوية الطائفية لا تمنع بروز هوية جامعة، فسويسرا نجحت بذلك، كما بلجيكا وإسبانيا الى حد كبير. لن نستطيع تغيير مجتمعنا بل علينا تقبّله كما هو وتحسين ادائه وتواصل مكوناته. لا بد من التنبه الى أننا لم ننجح حتى الآن بوضع قانون موحد للاحوال الشخصية او منع الزواج المبكر او حتى تجريم العنف الاسري”.
حرية التعبير في لبنان متقدمة جداً ولكن لم تبلغ مداها
“حرية التعبير مصانة في لبنان مقارنة بالدول المجاورة، وهي مفهوم حديث نسبيا في العالم”، يقول بو عاصي ويضيف: “حرية التعبير عندنا متقدمة على مستوى الإعلام والفرد، مقارنة بالجوار، ولكن لم تبلغ مداها بعد حيث ما زال من الصعب تقبل انتقاد اي مسؤول او رئيس بشكل حاد”.
إلا انه أوضح ان حرية التعبير ثقافة مجتمع، فحين نقمع حرية التعبير عند الولد حيث يقال له لا تعط رأيك بوجود الكبار ولا تجاوب من هو اكبر منك، فلا تتوقع ان يصبح مواطناً يعبر بحرية وثقة بالنفس. كما نبه من الرقابة الذاتية لدى الكثيرين وحتى لدى بعض وسائل الاعلام.
تابع: “هناك أمران يحتاجان لوقت من أجل تغييرهما لانهما مرتبطان بالثقافة: الخوف والمحرمات، مما يقوض الحرية. المحرمات والممنوعات كثيرة في مجتمعنا. صحيح بأن لا مجتمع دون ضوابط ومحرمات ولكن كلما كانت مساحة التابو اضيق كلما كان الابداع والحرية اوسع”.
ورداً على سؤال، أسف بو عاصي اننا ما زلنا نطرح موضوع تفعيل دور المرأة في القرن الواحد والعشرين، مذكّراً أن لبنان منح المرأة الحق بالتصويت قبل سويسرا ومضيفاً: “في عالم الاعمال تقدمت المرأة في المراتب ولكن ما زال هناك خلل في الرواتب. اليوم مطلوب ان تلعب المرأة دورها وتحديداً على الصعيد السياسي. انها تقترع نسبيا كحجم اقتراع الذكور ولكنها لا تشارك في الترشيح او تبوء المسؤوليات. أنا ضد “الكليشيهات” ورأيي الشخصي أن خلق جماعة نسوية مقابل جماعة ذكورية خطأ كبير، فالنساء والرجال جماعة واحدة اسمها البشرية”.