كتب د.ناصر زيدان في “الأنباء”: فتحت الواقعة الغريبة التي حصلت في 16 نوفمبر خلال انعقاد المؤتمر العالمي للدول العضوة في التحالف من أجل حرية الإعلام، الشهية للحديث عن دور الإعلام في لبنان، وعما يحيط بهذا الدور وما يهدده في المستقبل، لكون لبنان وصف على الدوام ببلد الحريات الإعلامية، وبأنه رسالة تعايش بين الثقافات المتعددة.
ففي المؤتمر الذي نظمته كندا افتراضيا بواسطة التواصل المرئي المباشر، رفض وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال شربل وهبة – وهو كان مديرا لمكتب الوزير السابق جبران باسيل – التوقيع على البيان الختامي، وكان الوحيد من بين ممثلين عن 37 دولة عضوة قد فعل ذلك، بحجة أن إحدى العبارات الواردة في البيان لا تستخدم في لبنان، وهي حجة ظاهرية لم تقنع المشاركين، حيث يمكن التحفظ على العبارة وحدها بالذات لو كانت هي السبب الوحيد للاعتراض.
خسارة لبنان مكانته بين نخبة الدول المدافعة عن حرية الإعلام، ليست الخسارة الوحيدة، فالانطباع السائد، أن تصنيف مكانة بيروت الإعلامية تتراجع على شاكلة مخيفة، وتشبه التراجعات التي يصيب بلاد الأرز في المجالات السياسية والاقتصادية والمالية والصحية. ومواقف الاستنكار التي وردت على لسان وزيرة الإعلام منال عبد الصمد وغيرها من الأحزاب والهيئات، لا تكفي لتصويب الاختلال الهائل الذي أصاب مكانة الإعلام والصحافة في لبنان.
واضح ان هناك تضييقا على الحريات منذ بداية العهد، والاستدعاءات للصحافيين والمدونيين فاقت كل حدود، ويرافقها تهديدات لفظية، وأحيانا أمنية غير معلنة لكل من يتناول ملفات حساسة، لاسيما منها انتقاد السلاح غير الشرعي، او مهاجمة الإخفاق المالي والإداري للعهد، والذي تسببت بالانهيار. وكانت لتوقيف التشكيلات القضائية مساهمة فاعلة في إثارة المخاوف، لأنها عطلت دور القضاء في ملاحقة المرتكبين، وحولت بعضا منه منصة للتجني والافتراء على بعض الناشطين والكتاب.
لكن الصورة السوداء التي تحيط بمستقبل الإعلام في لبنان ليست وليدة هذا التضييق فقط، بل هناك عوامل أخرى تساهم في هذا التراجع، ومنها أخطاء يرتكبها أصحاب بعض الوسائل الإعلامية بالذات، وهؤلاء خلطوا بين كون الصحافة المرئية والمسموعة والمكتوبة رسالة حضارية وفكرية، وبين الأهداف التجارية او الفئوية او الميثولوجية الباهتة. كما أن تحويل بيروت لمكان تتولى منها بعض المحطات شتم أصدقاء لبنان وأشقائه، كما في بعض التلفزيونات التي تجهر بعلاقتها المالية مع محور «الممانعة» وبعضها الآخر الذي يبدو واضحا أنه يلتزم بأجندة خارجية، شوه سمعة بيروت الإعلامية، وساهم في تعميم الفكر التدميري، واستفاد التطرف والإرهاب من هذا الجو، ونتجت عنه حالة من الفوضى العبثية الهدامة، وكل هذا لا يبشر بخير قادم، إذا لم تستدرك الدولة خطورة استمرار هذه المحطات على لبنان، وبالتالي تعمل على مراقبة مواردها المالية، من دون المس بالحريات الإعلامية.
وعلى الضفة الأخرى، فقد أضرت بعض المحطات بنفسها وبسمعة الإعلام، عندما قامت بأدوار ترويجية، او تشهيرية، بدت كأنها مدفوعة الأجر، او انتقائية، ولا تراعي وحدة المعايير، ولا الحد الأدنى من مستوجبات الرقي الإعلامي، وغالبا ما تتجاوز في اتهاماتها الثوابت والأصول، وتستخدم لغة «غوبلزية» لا تصلح ليومنا هذا، فالإعلام الحر يرفض الشتيمة، ومهمته توضيح الحقيقة وليس تشويهها، وهو سلطة رابعة لا يجوز أن يأخذ مكان السلطة الثالثة، ولا هو يقبل بإصدار الأحكام دون محاكمة، وبعض الرأي العام بدأ ينفر علنا من هذه الوضعية الشاذة والوضيعة التي تغزو الفضاءات اللبنانية.
منظمة مراسلون بلا حدود صنفت لبنان في المرتبة 102 من بين 180 دولة في سلم الدول التي تحترم حرية الصحافة وتلتزم بالمعايير المهنية. وهذا التصنيف يعتبر إساءة بالغة لسمعة البلاد. إن نجاح الإعلام يعتمد على احترام القوانين وعلى الموضوعية في نقل الأخبار وتحليلها، والصعوبات المالية التي تعاني منها غالبية وسائل الإعلام لا تبرر الانفلاش المخيف عند بعضها، وهو ما قد يصيب المهنة بالمقتل في ظل رواج وسائل التواصل الاجتماعية الحديثة.