“إننا نستنشق الفساد مع الهواء… في اليوم العالمي لمكافحة الفساد، لم أجد أفضل من مقولة نجيب محفوظ لكي أوصِّف الحال الذي وصل إليه لبنان في الآونة الأخيرة والفساد ينخر إداراته ومؤسساته. يحتل لبنان المرتبة 137 في العالم من أصل 180 بلد على مؤشر الفساد بحسب منظمة الشفافية العالمية. لم يبدأ تاريخنا مع الفساد بالأمس، بل إنه مسار تنامى بين الإنكار والاستنكار في معظم الأحيان، والاعتراف المتأخر أحيانا أخرى والإفلات من العقاب غالبا. فحتى حين تم الكشف عن مكامن الفساد، لم يتخذ أي إجراء يعاقب فاعله أو يردع تكراره في المستقبل.
نشرت دراسات عديدة تطرقت إلى واقع الفساد في لبنان وخلصت إلى توصيات حول كيفية محاربته. أغلبها فسر آفة الفساد بالنظام الطائفي والمحاصصة. وأعدت الصحف ووسائل الإعلام ملفات عدة تفضح، وبالأسماء، الفساد في قطاعات متنوعة، إلا أن المحاسبة لم تكن يوما على قدر التطلعات، ولا بمستوى الارتكاب.
أتوجه إلى اللبنانيات واللبنانيين اليوم مؤكدا أنه لا يمكن أن نشن حربا على الفساد دون كبح سبل تفشيه في سبيل إرساء مبادىء الحوكمة الرشيدة في الإدارة العامة التي تدور بشكل أساسي حول المحاسبة والشفافية وحكم القانون حيث الدور المحوري للأجهزة الرقابية. إن التفتيش المركزي عمل منذ إنشائه في عهد الرئيس فؤاد شهاب على مراقبة الإدارات والمؤسسات العامة، والتدقيق في سير العمل فيها وكشف ثغراتها وسعى إلى تطوير أساليب العمل الإداري، كما تؤكده التقارير والقرارات الصادرة والتي كشفت الفساد والممارسات غير القانونية. إلا أن القوانين فرضت المحافظة على سرية القرارات وعدم التطرق إلى تفاصيلها.
ونحن، مع التزامنا مبدأي السرية والخصوصية بما يخدم سير عمل التفتيش، نجحنا في مراكمة التجارب والخبرات لأخذ العبر واستخلاص معايير الأسس السليمة للعمل المؤسساتي وتطوير أداء الإدارة العامة. لقد كررنا مرارا وتكرارا ضرورة التقيد بالآراء الصادرة عن أجهزة الرقابة الإدارية والقضائية المختصة، كما ارتأينا خلال متابعتنا لملفات عدة إلى ضرورة إخضاع الوزراء للقضاء العادي وليس للمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزارات، تجنبا لأي تحيز أو استنسابية في المحاكمة.
بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة الفساد، نشدد على ضرورة إخضاع كافة وحدات وأشخاص القطاع العام، دون استثناء، لصلاحيات التفتيش المركزي، اذ انه لا يمكن بعد اليوم مكافحة الفساد مع إبقاء بعض المؤسسات والإدارات خارج أي رقابة.
صحيح أننا نستنشق الفساد مع الهواء، فكما تساءل محفوظ، كيف تأمل أن يخرج من المستنقع أمل حقيقي لنا؟ وعليه، سوف نضع بين أيديكم في الأيام القادمة خارطة طريق تهدف إلى الإصلاح الإداري، فتطرح بعض الخطوات العملية الأساسية التي يمكن أن ترشد عمل المؤسسات والإدارات، والتي يمكن العمل بها من أجل الخروج من بوتقة الظلام والانتصار على وباء الفساد الذي بات يشل البلاد والإدارات. وفي هذا الإطار، يبقى تفعيل رقابة التفتيش المركزي والإلتزام بقراراته ركيزة الإصلاح الإداري في الدولة اللبنانية وأساس استعادة ثقة اللبنانيين والشركاء الدوليين بمؤسسات الدولة.
تطرح هذه الخطة أيضا رؤية التفتيش المركزي لعدد من القطاعات مستندة إلى خبرات المفتشين في مختلف المجالات وإلى معطيات مبنية على سنوات من العمل الرقابي، وتتناول مجموعة إصلاحات من شأنها تعزيز فعالية العمل الإداري والحد من الفساد، لا سيما في ما يتعلق بمهام الوزراء، وترشيد الإدارة وتعزيز أجهزة الرقابة والانتقال نحو الحوكمة الرقمية.
من أبرز هذه الإصلاحات:
1) في تنظيم مهام الوزراء: إعتماد الوزيرالتسلسل الاداري الصحيح في تنظيم العمل الوزاري وخضوع الوزراء الحاليون والسابقون للقضاء العادي وليس للمجلس الاعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء.
2) في ترشيد الإدارة وتفعيلها: الغاء بعض الوزارات (الاعلام، المهجرين) او دمج بعضها مع وزارات اخرى (الشباب والرياضة، العمل، الثقافة، شؤون الاجتماعية) واعادة درس هيكليات الوزارات وتخفيض اعداد الوظائف واعتماد هيكليات ادارية جديدة تتناسب مع تطور مفهوم الادارة العامة.
3) في تعزيز أجهزة الرقابة وتطوير أدواتها: اعتماد إلزامية إبلاغ التفتيش المركزي مباشرة من قبل الموظفين، بالمخالفات القانونية التي مرت عليهم أثناء تأدية مهامهم، سيما لو اقترنت المعاملة بإصدار وتأكيد من الرئيس أو المرجع الأعلى.
4) في الإنتقال إلى الإدارة الرقمية: الربط المعلوماتي بين وحدات القطاع العام والهيئات الرقابية ومكننة المعاملات واعتماد اللامركزية في انجازها.
5) في أسس معايير التوظيف وهيكلة الإدارة: الغاء التجاوزات الوظيفية في ملء مراكز الوظائف القيادية (عمليات التكليف وهي حالة غير قانونية) حيث انها حاصرت الاستقرار الوظيفي وادت الى ارتهان الموظفين جهات التي كلفتهم وابقتهم تحت رحمة رؤسائهم.
6) في تطبيق التدقيق الداخلي: إعتماد التدقيق الداخلي في الوزارات والإدارات والمؤسسات العامة والبلديات وكافة هيئات القطاع العام، بحيث ترسل إلزاميا نسخ عن التقارير إلى الهيئات الرقابية المختصة.
7) في توحيد وتبسيط الإجراءات للمعاملات في الإدارات العامة: تبسيط اساليب العمل الاداري وتحديد اصول انجاز المعاملات وتحديد مهام الموظفين كما وإعتماد إجراءات واضحة ومعلنة لكافة المهام التي تؤديها وحدات القطاع العام (مثلا: المعاملة، المستندات المطلوبة، سير المعاملة ، مهل الإنجاز …).
8) في مجال العمل الإداري: قيام الموظفين بوضع وتوثيق خطة عمل لكل مهمة، تتضمن أهداف المهمة، ونطاقها، وتوقيتها، والموارد المخصصة لها. ويجب أن تأخذ الخطة في الاعتبار استراتيجيات وأهداف ومخاطر الإدارة ذات الصلة بالمهمة.
9) في مجال وزارة البيئة: العمل على وضع المعايير والمؤشرات والشروط المطلوبة، الآيلة إلى تصنيف المكاتب الاستشارية التي تعد دراسات تقييم بيئي استراتيجي، وتقييم أثر بيئي، وفحص بيئي مبدئي، وتدقيق بيئي تطبيقا للفقرة (7) من المادة 27 الواردة بالمرسوم 2275/2009، والى ضرورة تبيان شروط التصنيف المؤهلة لهذه المكاتب.
10) في مجال وزارة الاتصالات: تطبيق القانون رقم 431 تاريخ 22/7/2002 الذي لم يعمل به منذ صدوره وأدى إلى تفريغ الملاك وعدم تعيين موظفين لملء الشواغر، كما أدى إلى التداخل بالصلاحيات بين هيئة أوجيرو ووزارة الإتصالات، فضلا عن عدم إنشاء شركة إتصالات لبنان (Liban Telecom).
11) في مجال وزارة الصحة: اعادة تنظيم وهيكلة الوزارة، بحيث يكون التشديد على الكفاءة والتخصص في الوظائف التي تتطلب هذه الجدارة، سيما في خلق نظام رقابي على المستشفيات الحكومية وتوحيد تسعيرة ودرجات الاستشفاء للمستفيدين تحقيقا لمبداي العدالة والمساواة.
12) في مجال تلزيمات وزارة الأشغال وسائر الجهات: الغاء الممارسة غير الشرعية لمواد التجزئة في النفقة التي يكون الهدف منها اجراء مناقصات لاشغال يتم تجزئة مراحلها بشكل غير واقعي لتهريبها من رقابة ديوان المحاسبة وابعادها من رقابة ادارة المناقصات لدفتر الشروط والتفتيش المركزي لحسن التنفيذ (أقل من 75 مليون ليرة).
13) في مجال وزارة الشؤون الإجتماعية: وجوب اعتماد البطاقة الاجتماعية لدعم ذوي الدخل المحدود والعائلات الاكثر حاجة.
14) في مجال وزارة الزراعة: قيام البلديات بالتعاون مع المراكز الزراعية ومراكز الثروة الحيوانية بمسح عدد الأراضي التابعة للدولة أو لمؤسستها، والمشاعات، التي قد تكون صالحة للزراعة وتحديد عدد المزارعين، وأسماءهم، ودورهم (مالكون، مستصلحون، عمال، الخ.) توصلا لرسم استراتيجية الامن الغذائي وتوازن السلة الغذائية .
– في مجال وزارة المالية العامة: اجراء مسح شامل للمكلفين بضريبة الدخل لمنع التهرب الضريبي.
– واعادة النظر في شطور ضريبة الدخل الباب الثاني اذ لا يعقل ان يدفع ذوي الاجور المتوسطة ضريبة اكثر من غالبية المؤسسات المكلفة بالضريبة كما والعمل على تحصيل الضرائب والرسوم المتوجبة وتفعيل التحصيل الجبري بعد انتهاء الظروف الصعبة التي يمر بها البلد، اذ ان نسبة المبالغ المجباة من المبالغ المتوجبة قليلة جدا.
15) في مجال الجمارك : تشديد العقوبات فيما يتعلق بالمخلصين الجمركيين المخالفين في حال تكرار المخالفة بمناسبة تقديم البيانات الجمركية.
وتأمين العدد اللازم من آلات الكشف المتطورة “روبوتيك سكانر” وتوزيعها على مختلف المنافذ الحدودية (مرافىء، مطار، منافذ برية حدودية) بما يؤمن سهولة وسرعة الكشف على البضائع المستوردة كما وتقليص احتمالات التلاعب التي قد تحصل في قيام المراقب الكشاف بعمله فضلا عما تؤمنه تلك الانظمة المعلوماتية الكاشفة من سهولة إنسياب السلع إلى داخل الأراضي اللبنانية.
16) في مجال مؤسسة كهرباء لبنان: معالجة الهدر الفني والهدر الناتج عن السرقة للتيار الكهربائي بالإضافة الى المستهلكين المشتركين الذين لم تُنفّذ طلبات إشتراكاتهم والعالقة في الدوائر منذ سنوات كما ورفع قيمة سعر KWH على الشطور العالية بحيث لا تصيب الطبقة الفقيرة لأن سعر KWH حاليا أقل بكثير من سعر الكلفة مما يؤدي إلى تزايد العجز في مؤسسة كهرباء لبنان.
17) في مجال المؤسسات العامة والبلديات واتحاداتها: الغاء النصوص التي تخرج اعمال السلتطين التقريرية والتنفيذية في البلديات من رقابة التفتيش المركزي كما وجعل احالة هؤلاء على الهيئة العليا للتاديب بيد اجهزة الرقابة وليس بيد وزارة الداخلية .
18) في الحوكمة الرشيدة: تطبيق نظام تقييم أداء الموظفين في بعض الوحدات، والحاجة الى اعداد نظام تقييم جديد يلحظ تطور المهام الإدارية وطرق ادائها.
19) نظام تقييم المؤسسي ومؤشرات الاداء: اعطاء التفتيش المركزي أمر ادارة قاعدة معلومات تغذى دورياً عبر البيانات المرسلة اليه من مختلف الادارات، ويكون من مهامه التحليل والاحصاء والاستدلال على مكامن الخلل في الادارة كي يصار الى معالجتها بحسب ماهيتها إما عن طريق المفتشين وإما بواسطة كتب التوصية الى الادارات والمسؤولين والمجلس النيابي.
20) في دراسة المخاطر: فرض نظام جديد من قبل التفتيش المركزي على الإدارة لعملها السنوي يرتكز على قيامها بدراسة حالتها والمخاطر لوضع خطة لتلافيها تخضع فيها للرقابة الفعالة.
21) في اوضاع المفتشين في ادارة التفتيش المركزي: منح التفتيش المركزي صلاحية اخضاع بعض المفتشين غير المنتجين للتقييم وطرح أهليتهم، وإعادتهم إلى مجلس الخدمة المدنية لتقرير وضعهم الوظيفي.
22) في تشديد العقوبات المفروضة من قبل هيئة التفتيش: تعديل المادة 55 من نظام الموظفين بأن تضاف إليها عقوبات رادعة مع إمكانية دمجها،. ومن بين العقوبات المقترحة عقوبة النقل التأديبي التي يجب أن يجاز لهيئة التفتيش المركزي فرضها.
23) في نطاق صلاحيات التفتيش المركزي: توسيع صلاحيات التفتيش الرقابية لتشمل كافة الإدارات والمؤسسات العامة والبلديات ، وكل من هو معني بالشأن العام والمال العام.
24) في عمل المفتشين: منح التفتيش الادوات القانونية الكفيلة من أجل إلزام الإدارات التعاون معه وتزويده بالمستندات المطلوبة وتسهيل دخول المفتشين إلى حرم هذه الإدارات وعدم وضع العراقيل لعملهم.
25) تشريع الملاحقة في المال الخاص: في إطار مكافحة التعدي على المال العام، يجب العمل على تشريع الملاحقة على المال الخاص عند صدور قرار بالإدانة من التفتيش المركزي.
26) في التنسيق بين الإدارات: تفعيل منصة البلديات للتقييم والتنسيق والمتابعة (IMPACT) وهي التجربة الأولى في لبنان لربط البلديات بالسلطات المركزية وجمع البيانات الدقيقة بهدف إعداد سياسات تستجيب للحاجات الفعلية وتعالج التحديات من خلال أحدث التقنيات الرقمية”.