وليس أدلّ على هذا الوضع المُفْجع من «خط التوتر العالي» الجديد الذي شكّله ادعاء المحقّق العدلي في جريمة انفجار مرفأ بيروت القاضي فادي صوان على رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب والوزراء السابقين علي حسن خليل وغازي زعيتر (وهما نائبان حاليان في كتلة الرئيس نبيه بري) ويوسف فنيانوس (بتهمة «الإهمال والتقصير والتسبب بوفاة وإيذاء مئات الأشخاص»)، والذي سرعان ما أحْدَثَ غلياناً تَشابكتْ فيه السياسة بالطائفية والدستور وأجّج «القلوبَ المليانة» بفعل التجاذبات الحادة على جبهة ملف تأليف الحكومة وفتْح ملفات فسادٍ اعتبرها أطراف وازنون (بري والزعيم الدرزي وليد جنبلاط) بمثابة «تصفية حساباتٍ سياسية» من فريق الرئيس ميشال عون.
التحقيق في ‘بيروتشيما’ فجّر ‘القلوب المليانة’.. والأنظار تتجّه لخطوة صوان التالية
كتبت جريدة “الراي الكويتية”: تسود بيروت خشية متعاظمة بإزاء مسارِ القفْز من حفرةٍ إلى حفرةٍ أعمق الذي يرتسم على تخوم «جبل نارٍ» مكوّناتُه مالية – اقتصادية، سياسية – أمنية، وما زال خامداً يعلو فوق علبةِ ثقابٍ قد يشكّل الوضع المعيشي – الاجتماعي المكوّن الأسرع اشتعالاً فيها.
ولم ترَ أوساطٌ واسعة الاطلاع غير هذا التوصيف لإطلاقه على الواقع اللبناني الذي كلما اعتقد الخارجُ أنه بلغ أكثر درجاته قتامةً وتعقيداً في الطريق إلى الكارثة المدمّرة، اتّضح أنه مفتوحٌ على المزيد من العصْف الذي يهبّ من ملفاتٍ سرعان ما تعْلق في «شِباك» الأزمات المتعددة التي تتناسَل فيما البلاد على مشارف نفاد آخِر جرعات «الأكسجين» في مسيرة «الموت البطيء».
وفيما كانت بيروت مشغولةً بـ«خط التماس» الذي أطلّ برأسه مع «التوازن السلبي» الذي سعى عون لإقامته، رغم كل التباساته الدستورية، مع الخطوة المتقدّمة التي شكّلها تقديم الرئيس المكلف سعد الحريري تشكيلة حكومية مكتملة من 18 وزيراً من الاختصاصيين غير الحزبيين تولى «حمايتهم» من لعبة مَن يسمّيهم، وهو ما قابله رئيس الجمهورية بإيداعه «طرحاً حكومياً متكاملاً» مضاداً، لم تتأخّر خطوةُ القاضي صوان في إحداث «تسونامي» تداخل فيه السياسي بالطائفي والدستوري، منْذراً بأن يتحوّل «جاذبة صواعق» إضافية.
وبمعزل عن «العِراك» الدستوري الذي اندلع فور ادّعاء صوان على دياب والوزراء السابقين الثلاثة، وسط اعتبار البعض أن قلّة الاحتراز والتقصير والإهمال هي من الجرائم العادية التي تتيح المحاكمة أمام القضاء العادي مقابل تشديد آخَرين على أن المرجع الصالح في هذا الملف (وفق المادة 70 من الدستور) هو المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء، معتبرين أن الرسالة التي كان المحقق العدلي وجّهها بنفسه إلى البرلمان قبل نحو أسبوعين هي على طريقة «من فمك أدينك»، فإن الارتدادات السياسية لهذه الواقعة بدت مُزَلْزلة وتشي بوقْعٍ هائلٍ على المشهد اللبناني الذي لم يستفق أصلاً من هول «بيروتشيما» الذي صار كشْف خفاياه كاملةً (من الصندوق الأسود لشحنة الـ2700 طن من نيترات الأمونيوم التي خُزنت في العنبر رقم 12 لأكثر من 7 أعوام ومَن غطى إبقاءها في المرفأ وتهريب كميات منها وإلى أين، إلى مسؤولية مَن تغاضى عن إزالتها بعد انكشاف أمرها في الأشهر الأخيرة وتبلُّغ أعلى المرجعيات بذلك) من «ألف باء» استعادة لبنان ثقة المجتمع الدولي جنباً إلى جنب مع قيام حكومة مهمة إصلاحية بقوة دفْعٍ من المبادرة الفرنسية التي باتت أوروبية.
وعلى طريقة «بقية وتتمددّ»، استمرّت تداعيات خطوة صوان بالتفاعل وسط ارتسامٍ «هجوم دفاعي» من عون وفريقه بعد الأصوات التي ارتفعتْ متسائلة عن خلفيات اقتصار الادعاء على دياب والوزراء السابقين الثلاثة وعدم مساءلة رئيس الجمهورية الذي كان جاهر بأنه عَلِم قبل 15 يوماً من الانفجار بأمر شحنة الأمونيوم، في موازاة اكتمال نصاب «حائط الصدّ» السني الذي أقيم بوجه ما اعتُبر تطاولاً على مقام رئاسة الحكومة عبر بيانٍ صارم من المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى.
فبعد يومٍ (الجمعة) من رسْم «خط أحمر» عريض حول دياب، الذي بدا للمرة الأولى منذ توليه رئاسة الحكومة يتمتع بـ«شرعية سنية»، وهو ما عبّرتْ عنه خصوصاً الزيارة – الحدث التي قام بها الحريري له، رافضاً «الخرق الدستوري الواضح والفاضح الذي ارتكبه القاضي صوان»، ومطلقاً إشارة برسْم ملف التأليف بقوله «مِن الآخِر رئاسة الحكومة ليست للابتزاز وهذا الأمر مرفوض ونحن لن نقبل به»، دخل «الشرعي الأعلى» على الخط معلناً أمس، «أننا فوجئنا بتدبير من خارج السياق العام ترتفع حوله أكثر من علامة استفهام ويتجاوز كل الأعراف والقوانين وينتهك حرمات دستورية تتعلق برئاسة الوزراء»، مضيفاً «إنها أشبه بالهروب إلى الأمام، وهي في الحسابات الأخيرة مجرّد إيهام مضلّل بالتقدم في التحقيق، وعليه يؤكد المجلس أن المساس بمقام رئاسة الحكومة يطول كل اللبنانيين وما جرى من ادعاء مغرض على رئيس الحكومة مؤشر خطير يرمي لغايات ونيات سياسية معروفة الأهداف للنيل من الرئاسة الثالثة».
في المقابل وبعدما ردّ مكتب الإعلام في رئاسة الجمهورية على «تصريحات تضمّنت ادّعاءات حول مسؤوليّةٍ ما يتحملّها الرئيس عون» بملف انفجار المرفأ والتحقيقات فيه مبّيناً أن «المرة الأولى التي اطّلع فيها رئيس الجمهورية على وجود نيترات الأمونيوم في المستودع رقم 12 كانت من خلال تقرير للمديرية العامة لأمن الدولة وصله في 21 يوليو، وفور الاطلاع عليه طلب من مستشاره الأمني والعسكري متابعة مضمونه مع الأمين العام للمجلس الأعلى للدفاع الذي أَبلغ انه يعالج الموضوع»، مؤكداً أن «رئيس الجمهورية لم يتدخّل لا من قريب ولا من بعيد في التحقيقات»، رَفَعَ «التيار الوطني الحر» السقفَ، داعياً «إلى اتباع الأصول في الاعتراض على أي تجاوز للقانون قد يكون المحقق العدلي قام به»، ومعلناً «رفض أن يتلطى أي طرف بأي موقع طائفي دستوري لحماية نفسه من المحاسبة عن أي ارتكاب أو فساد بدءاً بمقام رئاسة الجمهورية»، وان «استخدام الحماية الطائفية والمذهبية لوقف مسار التحقيق أمرٌ خطير».
وإذ تتجه الأنظار إلى الخطوة التالية للقاضي صوان في ضوء قفْل دياب بابه بوجهه واتجاه الوزراء الثلاثة الآخَرين لعدم المثول أمامه، فإن مجمل المناخ المشحون والمرشّح للتصاعد وسط ما يشبه «حرْق المراكب» بين فريق عون وبين الحريري وبري وجنبلاط، يشي بتداعياتٍ لا يُعرف تأثيرها على محطة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في بيروت في 22 و23 ديسمبر الجاري في «زيارة تذكيرية» بوجوب تأليف حكومة المهمة الإصلاحية سيتفقد خلالها القوة الفرنسية العاملة في «اليونيفيل» ويلتقي «ممثلي الشعب» (المجتمع المدني) والرئيس عون «بروتوكولياً».