هذا السؤال يُثْقِل على المشهد اللبناني مع «المُخاطِرة» التي أقدم عليها الراعي على وقع السباق المحموم بين «المَخاطر القاتلة» التي تزنّر البلاد وبين آخِر الفرص الممكنة لتَدارُك الأسوأ الذي بات هديره أقوى من صدى الفرح الحزين بعيديْ الميلاد ورأس السنة اللذين يحلّان وسط خشيةٍ من أن يكون «رأس» لبنان بصيغته التي وُلد فيها باتت… «تحت المقصلة».
وقد ملأ التحرّك الذي أطلقه الراعي ابتداء من مساء الأربعاء، الفراغ الذي أحدثه إلغاء ماكرون زيارته التي كانت مقرّرة لبيروت في 22 و23 ديسمبر الجاري بعد إصابته بفيروس كورونا المستجد، وسط شكوكٍ كبيرة تحوط إمكانَ أن يُترك لرأس الكنيسة المارونية أن ينجح حيث لم يستطع الرئيس الفرنسي الذي وقعتْ مبادرتُه بين مطرقة «الرياح المتعاكسة» لعواصف المنطقة التي يقبع لبنان في عيْنها، وبين سندان إمعان أطراف داخلية وازنة في «اللعب بالنار» فوق «برميل البارود» المعيشي – الاجتماعي الموصول بـ «فتيل» الانهيار المالي – الاقتصادي الذي اشتعل ويُنذر بأنه لا يُبْقي ولا يَذَر.
وبمعزل عن «التشظيات» الدستورية للمَسالك «غير المألوفة» التي لا ينفكّ مسار تأليف الحكومة ينزلق إليها باعتبار «ان الضرورات تبيح المحظورات»، فإن أوساطاً واسعة الاطلاع اعتبرت أن دخول الراعي على خط الملف الحكومي، بدءاً من استقباله الحريري مساء الاربعاء ثم زيارته عون الجمعة ولقائه بعد ساعات قليلة باسيل (في بكركي) ناهيك عن قناة التواصل المفتوحة مع الرئيس المكلف عبر الوزيرين السابقين غطاس خوري (مستشار الحريري) وسجعان قزي، يبقى مفتوحاً في نتائجه على احتمالاتٍ يُخشى أن تفضي، بحال فشل المسعى البطريركي، إما إلى مناخاتٍ سلبية في العلاقة مع «القصر»، وإما إلى إحراج الحريري مسيحياً ربْطاً بعملية تقاذُف المسؤوليات المعتادة عند تعثّر كل محاولة حلّ.
ولم تتأخّر بالظهور مؤشراتُ أن حركة بكركي ستصطدم بجبل التعقيدات نفسها التي كاد أن ينقطع بسببها حبلُ المبادرة الفرنسية، وتتصل خصوصاً بموضوع الثلث المعطّل الذي يريده فريق رئيس الجمهورية تحت عنوان وحدة المعايير وتسمية الوزراء المسيحيين، وبمَن يتولى بعض الحقائب الأساسية (مثل الداخلية والطاقة والعدل)، وسط إصرار الحريري على رفْض منْح هذا الثلث لأي طرفٍ في حكومةٍ يريدها من اختصاصيين غير حزبيين وبلا ولاءات سياسية وبعيداً من أي محاصصة ولو مقنّعة، معتبراً أنه قام بما عليه عبر التشكيلة الكاملة من 18 وزيراً التي قدّمها لرئيس الجمهورية قبل 11 يوماً وضمّنها 4 أسماء، قال إن عون سبق أن اقترحها عليه.
وفي هذا الإطار، وبينما كانت تقارير تتحدّث عن ان البطريرك أطلع الحريري في اتصال هاتفي مطول عصر الجمعة على نتائج اللقاءين مع عون وباسيل قبل أن يُستكمل البحث في لقاء بعيد من الأضواء بين قزي وخوري، باغَتَ «التيار الحر» بعد اجتماع هيئته السياسية برئاسة باسيل، المسعى الكنسي معلناً «أن التأخير بتشكيل الحكومة مردُّه، بشقّه الداخلي الظاهر، الى وجود محاولة واضحة لتجاوُز الصلاحية الدستورية لرئيس الجمهورية كشريك كامل في تأليف الحكومة وكرئيس للبلاد والإصرار من جانب رئيس الحكومة المُكّلف على القفز فوق الميثاقية وعدم اعتماد معايير واضحة وواحدة للتعامل مع كل اللبنانيين»، متحدثاً أيضاً «عن نيةٍ للقفز فوق التوازنات الوطنية والعودة الى زمن التهميش وقضم الحقوق وهذا ما لا يمكن السكوت عنه».
وفي الإطار نفسه الذي يعكس استمرار «التقابل» بين عون والحريري، أعلن خوري «أن الرئيس المكلّف شرح للبطريرك مراحل تأليف الحكومة والعقبات وأهمها المطالبة بالثلث المعطل والخروج عن إطار المبادرة الفرنسية القائمة على تأليف حكومة أخصائيين»، موضحاً ان «هناك تشكيلة لدى رئيس الجمهورية وهو يستطيع رفضها أو قبولها أو إجراء تعديل عليها والأسماء التي وُضعت لا تنتقص من تمثيل المسيحيين ولا المسلمين»، جازماً «لقاء الحريري وباسيل غير مطروح».
واذ قال رداً على عدم تسلُّم لائحة من باسيل «التيار لم يسم الحريري وسمعنا أنه يريد أن يكون في المعارضة»، ختم: «البطريرك قطع الطريق على الحكومة الحزبية والثلث المعطل، والرئيس المكلف يقدم تشكيلة لرئيس الجمهورية ليضع ملاحظاته وفق الدستور».
في موازاة ذلك، وفيما كان رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع يعلن «لو كنت مكان الرئيس عون لاستقلتُ»، موضحاً أن «المجموعة الحاكمة غير قابلة للحياة من جديد والحل الوحيد يكمن بإجراء انتخابات نيابية مبكرة»، وجّه السفير البريطاني كريس رامبلينغ عشية مغادرته بيروت نهائياً رسالة بالغة الدلالات تحت عنوان «لبنان: وجدانيات ورحيل» أكد فيها ان «شعب لبنان يستحق أفضل من هذا»، معلناً «ندائي الأخير الى أولئك القادة والموظفين الحكوميين والخبراء الماليين ورجال الأعمال: لبلدكم أصدقاء. نحن نحب شعبكم ولكن أنتم وليس نحن مَن يمسك بزمام السلطة. وأنتم أكثر من كل القادة ستذكرون وستحاكمون على ما فعلتم في أكثر الأزمنة إلحاحاً».