2019: تشرين الثورة يصدّع عهداً من انحطاط السياسة

1 يناير 2020آخر تحديث :
2019: تشرين الثورة يصدّع عهداً من انحطاط السياسة
انصرم العام 2019 على جملة أحداث مترابطة رسمت تحولات وتوازنات سياسية جديدة، وستكون مستمرة في ترابطها في العام 2020. وحمل العام الآفل تطورات سياسية وعسكرية كثيرة، خلافات وتسويات، وتلاعباً سياسياً أدى في النهاية إلى انفجار اجتماعي، أخرج اللبنانيين بكل تلويناتهم إلى الساحات والميادين، رفضاً لسياسات التسويف والمحاصصات وطلباً لدولة المؤسسات.

حكومة الحريري
افتتح العام 2019 بتشكيل حكومة الرئيس سعد الحريري، بعد حوالى ثمانية أشهر من المفاوضات. وهي الحكومة التي اتُهم فيها الرجل بأنه قدّم تنازلات كثيرة لصالح التيار الوطني الحرّ، الذي حصل على الثلث المعطل فيما نال حزب الله مع حلفائه على ما يقارب الثلثين فيها. مع ذلك، كان عام 2019 عام الملفات العالقة، من ترسيم الحدود، والصواريخ الدقيقة ومخازنها، وصولاً إلى عملية إسرائيلية في قلب الضاحية لبيروت، ردّ عليها حزب الله باستهداف آلية إسرائيلية.

لم يستطع الحريري الحصول على المساعدات

افتتحت الحكومة عملها بشعارات مكافحة الفساد وترشيق الموازنة العامة، للحفاظ على الوضع الاقتصادي ومنعه من الانهيار، فيما كان الرهان الأبرز لدى هذه الحكومة على تحصيل المساعدات الدولية، التي أقرت في مؤتمر سيدر، والتي ارتبطت بلا شك بجملة تطورات سياسية محلية وإقليمية، كان أبرزها وجود فيتو أميركي على تسليم أي من هذه المساعدات، طالما أن لبنان أصبح مدرجاً في خانة المحور الإيراني. ربط الأميركيون المساعدات للبنان بملفات عديدة، من بينها إعادة الاعتبار لمبدأ النأي بالنفس، وإنجاز عملية ترسيم الحدود مع الأراضي الفلسطينية المحتلة قبل البدء بالتنقيب عن النفط.

عون في روسيا
شهد لبنان زيارات أميركية متعددة، لديفيد ساترفيلد وخلفه ديفيد هيل، للبحث عن اتفاق حول ترسيم الحدود. لكن الجانب اللبناني بقي على موقفه، ما دفع الأميركيين إلى التصعيد بوجهه مالياً واقتصادياً. لم يكن الموقف العربي بعيداً عن الموقف الأميركي. وهذا ما تجلى في القمة الاقتصادية التي استضافتها بيروت في الشهر الأول من السنة، فكان حال لبنان بما يشبه الحصار، وبدا معزولاً لولا حضور أمير دولة قطر.

زيارة موسكو

أجرى المسؤولون اللبنانيون جولات دولية عديدة، بحثاً عن المساعدات التي لم تتوفر. وقد أبُلغ الحريري من فرنسا أن الحصول على مساعدات “سيدر” متعذّر، بسبب السياسات الاقتصادية الخاطئة المتبعة في لبنان، وبسبب فساد سياسة المحاصصة والمقاولين السياسيين. وفي الأثناء، قام رئيس الجمهورية، ووزير الخارجية جبران باسيل وابنته ميراي عون، بزيارة إلى موسكو للقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وكان اللقاء مناسبة لتسويق باسيل روسياً، لدعمه في معركة الانتخابات الرئاسية المقبلة. وذهب باسيل إلى الضاحية الجنوبية برفقة جيش من الإعلاميين والسفراء لـ”تفنيد الادعاءات الإسرائيلية الكاذبة” بوجود مصانع للصواريخ الدقيقة عائدة لحزب الله.

بدا لبنان معزولاً في قمة بيروت (علي علّوش)

جولات باسيل
انطلاقاً من هذا الطموح بالمزيد من السلطة وبحلم الرئاسة، اندفع باسيل في جولات “شعبية”، شملت مختلف المناطق اللبنانية، محتفلاً بـ”انتصاراته” تحت شعارات “حقوق المسيحيين” و”استعادة الصلاحيات” على نحو بالغ الاستفزاز والجموح. لذا، سرعان ما تحول هذا العام إلى عام تطويق جبران باسيل. فبعد سلسلة استفزازات قام بها الرجل، متمتعاً بموقعه القوي في المعادلة الحكومية والسياسية ومستنداً إلى دعم حزب السلاح، عبر جولات ضرب من خلالها باسيل التوازنات السياسية بل وحتى الوئام الوطني. ففي البقاع، لم يتورع الرجل عن التحدث عما أسماه “السنّية السياسية” بوصفها قامت على أنقاض حقوق المسيحيين، داعياً إلى ضرورة تحجيمها واستعادة أمجاد السطوة المسيحية، محمّلاً الحريرية مسؤولية تهميش المسيحيين. وهذا الكلام كان كفيلاً بتفجير العلاقة مع “تيار المستقبل” ومع عموم سنّة لبنان لما بدا في كلامه من تحامل وتحريض ونعرة طائفية سافرة، إلا أن “تيار المستقبل” بدا وكأنه استفاق متأخراً في انتفاضته على طموحات باسيل. وبدا وكأنه فات الأوان على وضع حدّ لها. وصبّ هذا الفوات بشكل أو بآخر في مصلحة باسيل وضد مصلحة سعد الحريري، الذي لم يسارع منتفضاً للحريرية السياسية، ورفضاً لشيطنة السنّة ووقفاً لمسلسل التنازلات، إلا بعد خسارته لموقع رئاسة الحكومة، وذهاب عون وباسيل لتشكيل حكومة جديدة.

كادت “كلمات” جبران باسيل تشعل فتنة في الجبل (ريشار سمور)

بدأت عملية تطويق جبران باسيل، بعد أحداث قبرشمون في جبل لبنان، التي اندلعت إثر تصريحاته الاستفزازية في منطقة الكحالة، نابشاً قبور الحرب، منزهاً تياره السياسي الذي أسسه عمّه رئيس الجمهورية وملقياً على الدروز تبعات الحرب وأهوالها، واستعاد كلاماً استفزازياً من قبيل الإشارة إلى انتصارات عون في منطقة ضهر الوحش وسوق الغرب، الأمر الذي حرض الطائفة الدرزية غضباً وسخطاً واستنفاراً، ما أدى إلى انتشار المظاهر المسلحة ووقع اشتباك أدى إلى سقوط ضحيتين. دخلت بعدها البلاد في أزمة سياسية خطيرة، أدت إلى تعطيل الحكومة وإعادة الفرز السياسي في البلد، فيما كشف التعامل مع القضية فداحة التدخل السياسي في القضاء من قبل “العهد”. لكن وليد جنبلاط نجح في الصمود وكسرَ ميزان السطوة العونية، مستفيداً من موقف القوات اللبنانية وتيار المستقبل إلى جانبه. فثبّت مبدأ التوازن نسبياً وتغلّب على محاولة “الإلغاء”. وبعدها، مهدّت هذه المعادلة لإعادة وصل خطوط التواصل مع حزب الله في لقاءات بقصر عين التينة، برعاية الرئيس نبيه بري، خصوصاً أن تداعيات نزاع باسيل وجنبلاط، وقبلها مناكفات حلفاء حزب الله لجنبلاط في الجبل، أظهرت تفاقم الخصومة بين حزب الله وجنبلاط، الذي اعتبر أن الحزب يسعى إلى تطويقه، سواء بمشروع معمل فتوش في عين دارة أو بالعراضات شبه الميليشياوية داخل الجبل، فردّ جنبلاط بتصريحه العنيف عن مزارع شبعا. وبعدها دخل في سجال مباشر مع نصر الله تحت عنوان: “أنا أصادق رجال وأخاصم رجال”.

موقف الدروز في قبرشمون قطع الطريق على جبران باسيل لزيارة طرابلس. لتتحول إلى زيارة فاشلة ظهر فيها رجلاً منبوذاً ومكروهاً. إذ قاطعه الطرابلسيون تماماً ولم يجد سوى جمعاً ضئيلاً من أنصاره. مع ذلك، استمر باسيل بإطلاق المواقف الاستفزازية. وكانت هذه المرة ضد القوات اللبنانية مستعيداً أيضاً خطاب الحرب، في إطار محاولته المستمرة لتهفيت خصومه على الساحة السياسية جاعلاً نفسه نقياً مستقيماً فيما الآخرون مدانون. أدت مساعيه هذه إلى مصالحة بين القوات اللبنانية وتيار المردة، تجسدت بلقاء عقد في بكركي بين سمير جعجع وسليمان فرنجية، بهدف مواجهة باسيل ومحاصرته.

قضية العميل التي لم تنته فصولها بعد (علي علّوش)

عامر الفاخوري
من الأحداث البارزة في العام 2019، والتي كانت قد تؤدي إلى اندلاع حرب بين لبنان وإسرائيل، كانت عملية تفجير طائرتين مسيرتين في الضاحية الجنوبية لبيروت. ورغم الغموض الذي أحاط بمجمل العملية، فقد أشارت المعطيات إلى أن الطائرتين لم تكونا لغاية “استطلاعية” وإنما لتنفيذ عملية هجومية نوعية. هذه العملية استدعت رداً من قبل حزب الله، باستهداف آلية عسكرية في عملية خارج مزارع شبعا، وضمن نطاق عمل القرار 1701. لكن الاتصالات الدولية التي تمت قبل تنفيذ الحزب لوعيده، ضمنت عدم تصعيد الأمور والاكتفاء بمعادلة ضربة مقابل ضربة.

عملية إسقاط الطائرتين المسيّرتين الإسرائيليتين في الضاحية (مصطفى جمال الدين)

ما هدأت الأمور نسبياً، حتى طغت قضية العميل عامر فاخوري على ما عداها، وما تسببت به من إحراج سياسي وأخلاقي لكل من التيار الوطني الحر وحزب الله. وكان من أبرز تجلياتها ممارسة الضغوط على القضاء، للبحث عن مخرج لتهريبه، تجنباً لأي موقف أميركي سلبي مؤثر. وبعد فشل الضغوط على القضاة، تم التفكير في تغيير القاضي الذي ينظر بالقضية لصالح قاض آخر أكثر ليونة، ويصدر القرار الذي يلائم “العهد” للخروج من هذا المأزق، بينما أراد بعض المسؤولين استخدام ورقة الفاخوري للحصول على تساهل أميركي إزاء السياسات الداخلية، وأراد باسيل المقايضة بها لتجنّب العقوبات المالية التي قد تفرض عليه، خصوصاً ان الأشهر الفائتة شهدت صدور رزم عديدة من العقوبات على حزب الله. وكانت المرة الأولى التي تفرض عقوبات على شخص من الطائفة المسيحية.

17 تشرين حتماً
لم يشأ العام 2019 أن ينتهي على غرار سوالفه من الأعوام. فالتأزم السياسي والاقتصادي وتفاقم الفشل الحكومي كما تزايد ظواهر الفساد وانحطاط الإدارات، ثم بدأت تتواتر الاحتجاجات الموضعية، إضافة إلى تكاثر الإجراءات الضريبية.. أدت مساء 17 تشرين الأول إلى انفجار ثورة عارمة في مختلف المناطق اللبنانية. كان من نتائجها الأبرز استقالة الحكومة وتعطيل تكليف رؤساء لها من الطبقة السياسية ذاتها، وتحول جبران باسيل إلى أكثر شخصية مكروهة ومذمومة.

تلك الثورة قطعت مع حقبة مديدة، مبتدئة مساراً سياسياً جديداً، وربما تحولات جذرية في السياسة والمجتمع وفي بنية الدولة والحكم وآليات إنتاج السلطة.

المقالات والآراء المنشورة في الموقع والتعليقات على صفحات التواصل الاجتماعي بأسماء أصحـابها أو بأسماء مستعـارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لموقع “بيروت نيوز” بل تمثل وجهة نظر كاتبها، و”الموقع” غير مسؤول ولا يتحمل تبعات ما يكتب فيه من مواضيع أو تعليقات ويتحمل الكاتب كافة المسؤوليات التي تنتج عن ذلك.