في العام 2017، صدر للمرّة الأولى طابع رسمي لبناني تكريماً لرجل الأعمال كارلوس غصن، باعتباره مثالاً للنجاح والتميز اللبنانيَين. الطابع حمل اسمه وصورته تقديراً لإنجازاته في مجاليّ الصناعة والإدارة. كان الطابع الرسمي دليلاً على توطد العلاقة ومتانتها بين هذا الرجل وعهد الرئيس ميشال عون، وترجمة لطموحات الوزير جبران باسيل تجاه “المنتشرين” اللبنانيين، والاستفادة منهم ومن مقدراتهم وخبراتهم، في تعزيز الاقتصاد اللبناني.
وقبل سنتين تعمقت العلاقة بين باسيل وغصن، خصوصاً أن رئيس التيار الوطني الحرّ، وزير الخارجية، يعمل سياسياً وانتخابياً على استقطاب رجال الأعمال والمتمولين في الداخل والخارج.
باسيل ورجال الأعمال
يوم أوقف غصن في اليابان، كان رد الفعل اللبناني داعماً له بالمطلق. وسعى لبنان بجهود فعلية لاسترداده. حينها، صرّح الوزير سليم جريصاتي بوجوب العمل على إستعادة غصن، وصولاً إلى حد مطالبة اليابان بإطلاق سراحه فوراً واسترداده إلى لبنان. وحظي غصن باهتمام رسمي من قبل العهد وأركانه كما لم يحظ أي شخص آخر. وهذا يمثّل الأهمية التي يوليها العهد لهذا الرجل. وبُعيد توقيفه وإطلاقه بكفالة مالية، وإخضاعه للإقامة الجبرية، كان اللبنانيون المحسوبون على العهد يسوقون لضرورة عودته، بل وتسّلمه مناصب رسمية في الدولة، أو تسليمه حقيبة وزارية، باعتباره الوحيد القادر على النهوض بالاقتصاد والصناعة اللبنانيَين.
تلك المؤشرات تدلّ على كيفية التفكير التي ينتهجها التيار الوطني الحرّ في عهد جبران باسيل، الذي يقدّم حساب رجال الأعمال على غيرهم من “المناضلين”، والتي عكست تغيراً في في نهج التيار، ودفعت إلى ابتعاد الكثير من المناضلين الذين اتهموا التيار بأنه أصبح نادياً للرأسماليين ورجال الأعمال والمصالح مالية. وهذا ما تجلّى أصلاً في المنتسبين الجدد للتيار والذين أصبحوا وزراء ونواباً. وجميعهم من أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة. وهذا التغير كاف لإظهار مدى الارتباط العميق بين التيار الوطني الحرّ وكارلوس غصن، بوصفه إمبراطوراً مالياً وصناعياً واقتصادياً. وقد يكون إصدار الطابع باسمه مقدّمة لتوليه منصباً سياسياًن كان يحضّر له قبل تكشّف قضيته وتوقيفه في اليابان.
رعاية رسمية
بُعيد هربه الأسطوري من اليابان، أظهر أداء العهد الاستثنائي مع هذه القضية، أن تهريب غصن حظي بالدعم والتغطية الكاملة من قبل الدولة اللبنانية. وبالتأكيد، هناك أسئلة كثيرة تحتاج لزمن مديد لتتوفر الإجابات عليها، حول ملابسات وخلفيات ودوافع عملية تهريبه وتوفير الحماية له. طبعاً، وجود غصن في لبنان قانوني، لأنه غير مطلوب من قبل القضاء اللبناني، ولا يوجد أي اتفاقية بين لبنان واليابان لاسترداد المطلوبين. وهذه النقاط يرتكز عليها العهد في توفير الدعم والحماية والغطاء الكامل لغصن. لكن، بلا شك، تغطية تهريب شخص يُحاكَم في دولة أخرى، سيقدم صورة سيئة عن لبنان. وقد يؤدي إلى أزمة ديبلوماسية بين لبنان واليابان. إلا إذا كان هناك قطب مخفية أكثر، ترتبط بالوضع داخل اليابان.
لا يزال الغموض هو الذي يحيط بكل متفاصيل القضية. فبينما غصن وداعموه يعتبرون أن النظام القضائي في اليابان ظالم، خصوصاً في فرض الإقامة الجبرية والمراقبة والحراسة المفروضة عليه، قبل البدء بمحاكمته التي كان من المرجح أن تطول كثيراً ولسنوات. مع ذلك، فإن تنفيذ خطة تهريبه لا يمكن أن تتم من دون تواطؤ أجهزة أمنية رسمية أو خاصة، وجهات دولية عديدة توفر التسهيلات الضرورية لعملية بهذا الحجم والتعقيد، تحتاج إلى الكثير من المتطلبات اللوجستية. ولا شك أن دولاً عدة متورطة في عملية تهريبه، لأن جوازات سفره مصادرة من قبل السلطات اليابانية. والرجل دخل بجواز سفر شرعي، سواء كان جواز السفر فرنسياً أو لبنانياً، فهذا يعني أنه تم إصدار جواز سفر جديد له. فإذا كان جواز السفر هذا لبنانياً جاز القول أن لبنان عمل رسمياً على توفير ظروف تهريبه. وبحال كان فرنسياً، فبديهي القول أن فرنسا أيضاً متورطة، وأراد لبنان أن يأخذ القضية بصدره مقابل تنصل الفرنسيين من العملية. وهذا سيكون له ثمن مقابل يحصل عليه لبنان من فرنسا.
تناغم لبناني فرنسي
تتعدد الاحتمالات الدافعة لتهريب غصن. فأولها، يمكن أن تكون القضية بسيطة وشخصية، ترتبط بحسابات مالية ومردود مالي هائل لكل المتعاونين في تهريبه. وثانيها، أن تكون الجهات والدول الذي وفرت الغطاء لتهريبه تبتغي تحقيق جملة أمور، على رأسها عدم التوسع بالتحقيقات معه، كي لا تتكشف ملفات وفضائح أخرى، خصوصاً أن الأشخاص الذين من طينة غصن لديهم ارتباطات واسعة وهائلة. وهذه بالتأكيد لا تنفصل عن الاعتبارات الصناعية والاقتصادية بين فرنسا واليابان، والتداخل بين شركتي رينو ونيسان.
صدور بيان الخارجية اللبنانية الذي تنصل من أي معرفة في كيفية هروب غصن، وتالياً موقف الخارجية الفرنسية المماثل، يظهر تناغماً فرنسياً لبنانياً. وعندما أعلنت مصادر رسمية لبنانية أن غصن يحظى بحماية الدولة اللبنانية، جاء أيضاً الموقف الفرنسي معلناً أن باريس لن تسلمه لليابان إن جاء إلى فرنسا. وهذا أيضاً يظهر الغطاء الفرنسي للرجل. والعلاقة الفرنسية اللبنانية “المميزة” في عهدي ماكرون وعون، تشير إلى توزيع المصالح المتبادلة بين الطرفين، فماكرون أظهر دعماً استثنائياً للبنان والتسوية التي أوصلت عون رئيساً للجمهورية. والعلاقات لا تقف عند هذه الحدود، بل ترتبط بمسارب وصلات أخرى، يمثّل كارلوس غصن إحدى نقاط تقاطعها، فهو عدا عن تمتعه بعلاقات جيدة في لبنان وفرنسا، له علاقات مع إيران ومع إسرائيل التي زارها أكثر من مرّة، والتقى فيها رؤساءها ومسؤوليها.
حزب الله وعمليات التبادل
في أحداث متعددة، ظهر عميقاً ارتباط أشخاص بسياسات دول ومصالح مالية واقتصادية. وكان هؤلاء الأشخاص مساهمين في الوساطات السرية، للتفاوض والتقارب بين هذه الدول. قد لا تحتمل قضية غصن كل هذا التحليل. لكن أيضاً كل شيء وارد، خصوصاً في عملية من هذا النوع لا يمكن أن تتم من دون أن تؤثر على العلاقات بين الدول. والغريب في قضية غصن الذي زار إسرائيل وعقد الكثير من اللقاءات مع مسؤوليها، لم يحظ دخوله إلى لبنان بأي تعليق من حزب الله أو اعتراض، الأمر الذي يطرح المزيد من علامات الاستفهام والغموض. وهذا ما يدفع البعض إلى الربط بينه وبين عامر الفاخوري وبين قاسم تاج الدين، الذي حكي عن إمكانية شموله بعملية تبادل، كاستكمال لعمليات التبادل بين إيران والولايات المتحدة الأميركية. وهنا لا يمكن فصل دور اليابان التفاوضي بين واشنطن وطهران.