كتب ماجد جابر في “الأخبار”: حلّ لبنان في المرتبة ما قبل الأخيرة عالمياً في العلوم، والأخيرة عربياً في اختبار «تيمز» الدولي. النتائج الكارثية للتلامذة في العلوم والرياضيات تثبت، مرة تلو أخرى، الحاجة إلى إعادة التفكير في جدوى مناهج يخنقها الحشو، وغير مصمّمة أساساً لتلبية احتياجات التلامذة في الاختبارات الدوليّة
من بين 39 دولة شاركت في الاختبار الدولي «اتجاهات في دراسة الرياضيات والعلوم الدولية» (TIMSS) عام 2019، وأُعلنت نتائجها الشهر الماضي، حلّ لبنان في المرتبة 38 في مادة العلوم، وفي المرتبة الأخيرة عربياً من بين 10 دول عربية مشاركة، فيما أتت نتائج الرياضيات أقل قساوة. إذ حاز لبنان المرتبة 32 دولياً، والرابعة عربياً.
وهذه المرة الخامسة التي يخوض فيها لبنان الاختبار الدولي الذي تنظّمه الرابطة الدولية لتقييم الإنجازات التعليمية (IEA) كل 4 سنوات، من أجل تقويم التحصيل الدراسي للتلامذة. وهو يعتمد منهجية علمية تمكّن الدول من قياس مدى التقدم الذي أحرزته في مجال تعليم وتعلم الرياضيات والعلوم على المستوى الدولي، ووضع صورة تقييمية شاملة حول تحصيل التلامذة من جهة، ومدى ملاءمة المناهج المعتمدة في الدولة من جهة أخرى.
قراءة نتائج 4730 تلميذاً وتلميذة من 204 مدارس رسمية وخاصة تدفع إلى إعادة التفكير في جدوى اعتماد المناهج الحالية في الرياضيات والعلوم، والتي تثبت فشلها مع كل استحقاق تعليمي، إن على مستوى الاختبارات الدولية، أو على المستوى المحلي، بعدما أظهرت تجربة التعليم عن بعد تأخّر المناهج عن ركب التطور المتسارع في كل المستويات.
في ما يخص مادة الرياضيات، بلغ معدل التحصيل للصف الثامن أساسي 429 نقطة، أي أدنى من معدل الاختبار (500 نقطة). والمعدل الحالي هو أدنى نتيجة منذ المشاركة الأولى في الاستحقاق، إذ نال لبنان 433 نقطة في 2003، و449 بين عامَي 2007 و2011، ليعود وينخفض إلى 442 عام 2015، قبل أن يزيد تدهوره في الاستحقاق الأخير.
ولبنان هو البلد العربي الوحيد الذي تراجع معدل التحصيل لديه، من بين الدول العربية المشاركة التي سجلت مستوى تحصيل أفضل مقارنة باستحقاق 2015، وإن كانت أيّ من هذه الدول لم تنجح في اجتياز معدل الاختبار. هي نتيجة قاتمة إذا ما قورنت ببلدان أخرى، ولا سيما سنغافورة التي حلّت في المرتبة الأولى (616 نقطة)، والصين التي أتت ثانية (612)، وكوريا في المرتبة الثالثة (607). فيما تقدّم الكيان الإسرائيلي 8 نقاط عن الاستحقاق السابق ليصل إلى 519 نقطة، علماً بأن مؤشر التحصيل لديه ارتفع من 332 نقطة في مشاركة 2011 إلى 511 نقطة عام 2015، بعدما كان لبنان متقدّماً عليه بـ 117 نقطة عام 2011.
أما في مادة العلوم، فقد جاءت النتائج مخيّبة للغاية. إذ بلغ المعدل أدنى مستوى منذ المشاركة الأولى، أي 377 نقطة، بعدما كان 393 في 2003 و414 في 2007، لينخفض بعدها تدريجياً، الى 406 نقاط في 2011، و398 نقطة في 2015. وحلّت سنغافورة أولى في العلوم أيضاً مع 608 نقاط، فيما حازت البحرين المرتبة الأولى عربياً بـ 486 نقطة.
اللافت أن لبنان حقق نتائج كارثية مقابل عدد ساعات تدريس مرتفعة. ففي حين بلغت الساعات التعليمية في مادة العلوم خلال السنة الدراسية 243 ساعة، لم يتجاوز عدد الساعات في سنغافورة 112 ساعة سنوياً وفي فنلندا 142 ساعة. وينسحب الأمر نفسه على مادة الرياضيات، إذ حل لبنان في المرتبة الرابعة بين الدول المشاركة لناحية عدد ساعات تدريس الرياضيات سنوياً (170 ساعة)، مقابل 135 ساعة في سنغافورة و111 ساعة في فنلندا.
المفارقة بين التحصيل وعدد الساعات تعكس التلقين السائد في التعليم، وكيف أن أدمغة المتعلمين تحوّلت الى أوعية تصبّ فيها المعلومات من دون أن تكون للمتعلم القدرة على التحليل والنقد والنقاش والتركيب وتشغيل «ميكانيزم» التفكير للوظائف العقلية بطريقة منظّمة ومترابطة. والدليل الأبرز هو أن تحصيل المتعلمين الناجم عن ممارسة جميع مستويات التفكير (معارف، تطبيق، مهارات عليا: تحليل وتعليل واستدلال) كان أقل من معدل التحصيل الدولي بفارق كبير. أضف إلى ذلك أن معدل تحصيل الطلاب كان متدنّياً أيضاً و أقل من المعدل الدولي في التعامل مع الإجابة عن مختلف أنماط الأسئلة (خيار من متعدد، ربط، سؤال مفتوح، املأ الفراغ، إجابة مختصرة، صح أو خطأ) وفي طريقة استخدام المستندات (بيانات، رسوم، جداول ونصوص)، وحتى الأسئلة المبتدئة بأفعال إجرائية وأسئلة أدوات الاستفهام.
وفي تعارض منطقي مع النتائج، قال 61% من التلامذة اللبنانيين ممن شاركوا في الاختبار إنهم يتلقّون شرح مادة الرياضيات بوضوح عال، و58% يظنّون الأمر نفسه في الطبيعيات، و60% في الكيمياء و58% في الفيزياء. وفي هذا مؤشر مهم، وهو أنّ 19% فقط من معلمي الرياضيات حائزون اختصاصي الرياضيات وديداكتيك الرياضيات، و15% فقط يملكون اختصاصَي العلوم وديداكتيك العلوم، أي أن معظم أساتذة العلوم والرياضيات غير معدّين لمهنة التدريس، ولهذا أعربوا عن حاجتهم إلى التطوير المهني، ودمج التكنولوجيا بتعليم العلوم والرياضيات، وتحسين التفكير النقدي وحل المسائل عند التلامذة، وتلبية احتياجات التلميذ الفردية.
حقيقة الامر أن المنهج الذي تمارس من خلاله الدولة سياستها التربوية الفاشلة من الترقيع والارتجال إلى التنفيعات وسوء التخطيط، غير مصمّم في الأساس لتلبية احتياجات التلامذة في الاختبارات الدولية. إذ تغيب بشكل كبير مهارات الممارسات العلمية والعقلية بشكل متنوع ومتوازن، وخصوصاً مستويات التفكير العليا في تصنيف بلوم لأهداف التعلم (التحليل – التركيب – التقويم)، فضلاً عن عدم تغطيته لجميع جوانب التقويم اللازمة في العملية التعليمية الصحيحة. مناهج يخنقها الحشو وتقتلها الفوضى في طريقة تنظيم الدروس والأهداف والكفايات. أما المعلمون فلا يملكون خبرة ومعرفة كافية بشأن أنماط ونماذج الأسئلة الخاصة بهذه الاختبارات، وطرائق التدريس والتقويم التي تتناسب معها. بدورهم، يعاني معظم التلامذة من ضعف في مهارات القراءة والكتابة باللغة الأجنبية، بما يجعلهم غير مهيئين لهذه الاختبارات، كما أنهم لا يخضعون لتدريب كاف على الأسئلة التي تتطلب مهارات التفكير الخاصة بها، فيشاركون فيها من دون أي حافز باعتبار أنها لا تدخل ضمن التقييم المدرسي، ومعظمهم يشارك فيها من باب الفرض من جانب الإدارة.